يعيش العالم فضيحة بكل المقاييس بعدما نجحت شركة صغيرة غير معروفة “سيرجسفير” في التأثير على أكبر المجلات العلمية “ذي لانسيت” لوقف استعمال عقار “هيدروكسي كلوروكين في معالجة مرض كوفيد 19 الناتج عن كورونا فيروس، وعملت برأيها منظمة الصحة العالمية بدون تدقيق. وهذا يجر الى كيف تتلاعب الشركات الكبرى بصحة البشرية.
ومنذ انتشار كورونا فيروس، لجأت بعض الدول ومنها الصين وبعض الخبراء في الفيروسات وعلى رأسهم الطبيب والباحث الفرنسي الشهير ديديي راؤول في معهده المتوسطي الخاص بدراسة الأوبئة في مرسيليا الى الرهان على دواء “هيدروكسي كلوروكين” لعلاج المصابين وخاصة الذين يتدهور وضعهم الصحي. وكان هذا الدواء المضاد للملاريا أساسا يباع بدون وصفة من الطبيب ولا يتعدى ثمنه في صيدليات بعض الدول ما بين يورو في المغرب الى 3 يورو في فرنسا مثلا.
هجمة ضد “هيدروكسي كلوروكين “
وفجأة بدأ هذا الدواء يتعرض لهجمات علمية–إعلامية دقيقة لا توصي باستعماله نظرا لما يفترض بشأن انعكاساته الصحية الخطيرة على الإنسان كالتسبب في أمراض جانبية مثل القلب. وبلغ الأمر الى نشر المجلة الطبية الأمريكية الشهيرة ذي لانسيت يوم 22 مايو الماضي دراسة تفند فيه استعمال الدواء وتقول أنه يتسبب في القتل. ومباشرة بعدها أصدرت منظمة الصحة العالمية توصية بوقف استعمال “هيدروكسي كلوروكين” في معالجة مرضى الكوفيد 19، ووسط دهشة الجميع، قررت الحكومة الفرنسية منع استعمال هذا الدواء.
وانقسم العالم الى قسمين، دول آسيا وعلى رأسها الصين ودول إفريقيا التي وضعت أملها في الدواء بحكم أنه قلص من الوفيات بشكل كبير للغاية، ودول غرب أوروبا التي انساقت وراء دراسة ذي لانسيت ونسبيا مجلة “نيو إنغلند حورنال أوف مدسين” البريطانية. ومن ضمن العوامل التي ساعدت على رفض “هيدروكسي كلوروكين هو إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب استعماله، وهو الرئيس الذي تساءل هل يمكن استعمال المعقم في غسل الرئة.
ويبقى المثير للتساؤل أنه في الوقت الذي كانت تدور فيه شكوك حول الدواء، اقتنت عدد من المؤسسات العسكرية ومنها الولايات المتحدة واسبانيا وفرنسا وإيطاليا المواد الأولية الخاصة بتصنيعه، أي أنها ذهبت في طريق مختلف عن السلطات المدنية.
ديديي راوول: دون كيشوت الرابح
يعد دون كيشوت ذلك الفارس المغوار الذي يصارع طواحين الهواء ويخسر كل نزالاته، هكذا أطلق مجموعة من الاعلاميين على ديديي راؤول الذي دافع بقوة على البروتوكول الذي اعتمده في معالجة مرضى الكوفيد 19 والمعتمد على هيدروكسي كلوروكين، تعرض للسخرية والتحدي. واعتقد الجميع أن ما نشرته أكبر مجلة علمية طبية في العالم “ذي لانسيت” كان الضربة القاضية ضد ديديي راؤول. لكن راوول الذي يدير المعهد المتوسطي للصحة في مارسيليا رفع التحدي، فهو يمزج بين الطب والبحث العلمي ويعتقد في البروتوكول الذي اعتمده في معالجة مرضى الكوفيد 19 الناتج عن كورونا فيروس، وقد حقق في معهده أقل نسبة من الوفيات في العالم في صفوف المرضى مقارنة مع Hي مستشفى آخر في العالم، كما أن مدينة مارسيليا الكبيرة سجلت أقل نسب في الوفيات مقارنة مع المدن الغربية الأخرى.
وزعم أصحاب الدراسة بالاطلاع على أكثر من 96 ألف ملف لمرضى الكوفيد مصدرها 671 مستشفى من العالم، ورصدوا وفاة 30% بسبب الانعكاسات الجانبية التي يسببها هذا الدواء. وهو ما أدى ال رد فعل سريع من منظمة الصحة العالمية. لكن الواقع كان مختلفا، فالدول التي استعملت هيدروكسي كلوروكين لم تعلن سوى عن وفيات لم تتجاوز 5%. وبدأ ديديي راؤول حملته معتمدا على شبكات التواصل الاجتماعي وقنوات مثل BFMTV الفرنسية، وانتهت بأن شركة سيرجسيفر التي أشرفت على الدراسة هي شركة مجهولة في عالم الأبحاث العلمية، وعجزت عن تقديم ولو اسم مستشفى واحد من أصل 671 في العالم. وبدأت معالم ما يعتبر أكبر “دراسة فايك نيوز طبي” تتبلور أمام العالم، مما دفع بثلاثة من أصل أربعة المشاركين في الدراسة الى التبرؤ منها، ودفع هذا بمجلة ذي لانسيت مساء الخميس من الأسبوع الجاري الى سحب الدراسة نهائيا في إجراء غير مسبوق. وكانت منظمة الصحة العالمية قد أعلنت الأربعاء من الأسبوع الجاري العودة الى الاعتماد على هذا الدواء.
التلاعب بصحة البشرية
ويبرز الباحث العلمي فيلب فروغيل في تصريحات إذاعة “راديو سود” “ما جرى مع لانسيت هو فضيحة بكل المقاييس عندما علمنا أن إحدى المشاركات لا تكوين علمي لها بل كانت تعمل في مجال الاستعراض الجنسي في لاس فيغاس“، ويضيف “ذي لانسيت تستهدف البحث العلمي الفرنسي منذ مدة ولم تعد تخضع كل الدراسات للصرامة العلمية“.
ويؤكد محمد شكري أستاذ الطب ودكتور في البيولوجيا الجزيئية من الجامعة الحرة لبروكسيل في تصريح لجريدة القدس العربي “ذي لانسيت مرجعا عالميا في الأبحاث العلمية الخاصة بالطب، وهذا الخطأ الفادح سيعيد النظر في الكثير من الأبحاث المنشورة التي أثارت جدلا في السابق، وسيدفع نحو إعادة النظر في قواعد مراجعة الأبحاث العلمية“. ومن جهته، قال الطبيب جان فرانسوا لومواندر المعروف بمقالاته الصحفية الطبية في وسائل الإعلام الفرنسية “الآن علينا أن نعرف من يقف وراء هذه الدراسة الشبح والثمن الذي جرى تأديته وكم قبضت ذي لانسيت لنشر هذه الدراسة“.
ما أقدمت عليه ذي لانسيت يعتبر جريمة في رأي الكثير من الخبراء، لقد كانت محل ثقة معظم الباحثين، لكن الآن بدأ يتبين أنها تمهد لأدوية على حساب أخرى. وقال ديديي راؤول “نحن أمام قضية خطيرة، هيدروكسي كلوروكين يساوي 2 يورو، وهذا يعني إمكاني معالجة كل البشرية ب 10 مليارات يورو، بينما البعض يرغب في فرض أدوية تساوي 200 يورو للأسبوع“. لقد أصبحت صحة البشرية سوقا للإتجار والربح السريع، لكن الحرية التي توفرها شبكات التواصل الاجتماعي أوقفت هذه الجريمة.