حسن أوريد من الشخصيات السياسية والفكرية البارزة بالمغرب، درس مع الملك محمد السادس في المدرسة نفسها، وبعد التخرج عمل بواشنطن مستشاراً سياسياً في السفارة المغربية.
بعد تولي محمد السادس الحكم سنة 1999، تم تعيينه كأول ناطق رسمي باسم القصر الملكي في تاريخ المغرب. وفي يونيو/حزيران 2005، عُيِّن أوريد محافظاً على جهة مكناس تافيلالت (وسط المملكة)، قبل أن يعود إلى القصر الملكي بصفة مؤرخ للمملكة منذ 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2009 وإلى غاية ديسمبر/كانون الأول 2010.
بعد خروجه من القصر، تفرغ أوريد للتدريس والكتابة، له مجموعة من المؤلفات التي أثارت الجدل في البلاد؛ نظراً إلى معرفة صاحبها بخبايا القصور والسلطة، ومن ضمنها: “الأجمة”، و”سيرة حمار”، و”الموريسكي”، و”مرآة الغرب المتكسرة”، و”ربيع قرطبة”.
“هاف بوست عربي” التقى أوريد؛ لينقل رأيه عن المشهد السياسي في المغرب بعد ما عُرف بالربيع العربي، وعن تجربة الإسلاميين في الحكم، وكذلك عن مشواره داخل القصر، وكواليس السلطة بالمغرب وخروجه منها إلى عالم الآداب والفكر والتأريخ.
المفكر والكاتب ورجل السلطة حسن أوريد، باعتبار أنك في هذه الفترة اخترت الأدب كوسيلة للتعبير عن آرائك، يمكن أن ننطلق في حوارنا من روايتك “الأجمة”، التي اعتبرها البعض انعكاساً لوضع معيَّن عاشه أوريد حينما كان في القصر، ووجَّهت من خلالها انتقادات للجيش ولليساريين وحتى الإسلاميين؟
كنت أتوقع أن يكون لهذه الرواية صدى، ولم يكن لها ذلك، مع أنني أعتبرها من أعمق الأعمال التي كتبتها، كتبتها في سياق معين بعد إيقاف مسلسل الانتخابات بالجزائر في 1992 وما آلت إليه الأمور في ذلك البلد.
الطريف في الأمر أنه في 2014، أصدرت مجلة “ذي إيكونوميست” ملفاً عن العالم العربي، اعتبرت أنه بعد التحول الذي عرفته مصر من خلال إزاحة محمد مرسي، استعملت مصطلح THE ALGERIAN SYNDROM، أو العَرض الجزائري. ما عرفته مصر في 2014 هو الأمر الذي عرفته الجزائر في 1992، المشكل بنيويٌّ إذن.
حينما قرأت هذا المقال ارتأيت أن أُخرج هذا العمل. وباعتباره ينتقد الوضع في العالم العربي بشكل لاذع، كنت ترددت في إصداره وانتقدت طبعاً البنية الأبوية وتوظيف المؤسسات البوليسية والبيروقراطية، مثلما انتقدت ما كان سمّاه السوسيولوجي الفلسطيني المرحوم هشام شرابي “الأبوية الجديدة”. وبطبيعة الحال، انتقدت العسكر واليسار ولم أوفر كذلك الإسلاميين. حافظت على جذوة الأمل من خلال من يعبّرون عن ضمير المجتمعات، وهم في الرواية الطير. كتبت الرواية على لسان الحيوانات بأسلوب قديم وعتيق يستوحي أسلوب كليلة ودمنة.
هناك من يقول إن “الأجمة” رواية ذاتية للفترة التي قضاها حسن أوريد داخل القصر كمستشار للملك محمد السادس؟
هذا ليس صحيحاً؛ لأني كتبتها في 1994 ولم أكن حينها بدوائر السلطة. أجريت بعض التنقيحات على العمل بعدها، لكن من دون شك، رواية “الموريسكي” تستوحي تجربتي الشخصية، أو حتى “ربيع قرطبة” تطفح بما يسمى دسائس القصور.
انطلاقاً من تجربتك، هل يمكن الحديث عن تغيير في المغرب على المستويَين السياسي والاجتماعي، خاصة أنك كنت من المنظِّرين لما عُرف بـ”العهد الجديد”، وكنت حاضراً في فترة انتقالية عاشها المغرب بين الملكَين الراحل الحسن الثاني، والملك محمد السادس؟
لا أدري إن كان من الجائز أن أتحدث عن نفسي، لكن الأكيد أن مآل الأمور في فترة معينة لم يكن يستجيب لرؤاي، لم أكن أجد نفسي في الخيارات التي بدأت ترتسم منذ 2007 و2008، بالأخص مع إنشاء حزب “الأصالة والمعاصرة” (حزب أشرف على تأسيسه مستشار الملك الحالي فؤاد عالي الهمة). لم يكن من الممكن أن أجهر بذلك، ولذلك فضلت الانسحاب. لم أقبل بمنصب صوري، وطبعاً طلبت الإعفاء، وهو أكثر من العزوف عن منصب، هو النأي عن خيارات مجراة.
هل هذا يعني أن السبب المباشر لانسحابك هو تأسيس حزب الأصالة والمعاصرة؟
لم أكن أجد نفسي في خيارات وتوجهاتٍ، مثلما أن الذين كانوا يصوغون الخيارات لم يكن يجدون أنفسهم فيَّ، ولم أكن أطابق توجهاتهم؛ لذلك فهم رأوا أنه من الأفضل أن أُعزل؛ لأن المنصب الأخير الذي أُسند إليَّ هو نوع من العزل (منصب مؤرخ المملكة).
على كل حالٍ، نحن الآن أمام اتجاهين: دينامية اجتماعية متطورة، وبنية سياسية تتأقلم حينما لا ترى محيداً عن التأقلم. هنا أتحدث كأستاذ للعلوم السياسية. المجتمع المغربي ينحو نحو التحديث ولا يمكن أبداً أن تبقى لا القواعد المعمول بها ولا البنى القائمة على ما هي عليه. هناك تطور مجتمعي وتغييرات عميقة داخل البنية الاجتماعية المغربية، الأمر الذي يجعل من العسير أن تبقى الأمور كما كانت. ربما ما يفسر نجاح حزب “العدالة والتنمية”، فترة، هو أنه أدرك هذه الدينامكية الإيجابية. ولكن، يبدو لي أن “العدالة والتنمية” خذل هذه الديناميكية، فالفاعل الأساسي هو الدينامية المجتمعية الإيجابية، وليس “العدالة والتنمية”، وهذه الدينامية سوف تبحث عن إطارات جديدة وستغير الكثير من القواعد والسلوكيات.
ما هي الإطارات الجديدة التي يمكن أن يعوَّل عليها مستقبلًا؟
لا أدري، مثلاً في الفيزياء تقع عملية التكثيف (مثل الذرات) عن طريق “محفز”، هناك كيانات؛ منها المجتمع المدني وبعض الأحزاب السياسية وفعاليات حرة، ومثقفون، من المحتمل أن تفضي إلى إطار جديد…
لكن، هل تعتقد أن الشارع المغربي ما يزال يثق بالأحزاب السياسية أو حتى بالعمل السياسي برمَّته؟
إذا رصدنا البنية الحزبية، فسنجد أنها كلها في أزمة. الأحزاب المنبثقة عن الحركة الوطنية تعيش أزمة واضحة، “العدالة والتنمية” يعيش أزمة، كانت مستترة الآن أصبحت مكشوفة، حتى الأحزاب الإدارية في نهاية المطاف تتأقلم. وعلى كل حال، فالأحزاب الإدارية ليست أحزاباً جماهيرية، هي أحزاب أُطر، وفي غالب الأمر هي تجمعات مصالح، لا تعبر عن رؤية مجتمعية. ليس من الضروري أن يكون الإطار الجديد الذي يحتضن الدينامية الإيجابية للمجتمع إطاراً حزبياً… الآن، يتم التعبير عنها من خلال الشارع أحياناً، ومن خلال أصوات حرة، ومن خلال فعاليات بداخل المجتمع المدني، لكن من المحتمل أن تتحول إلى قوى سياسية مهيكلة.
كيف يمكن أن نتحدث عن قوة مهيكِلة للمجتمع المدني، مع العلم أن “20 فبراير/شباط” كانت حركية مجتمعية، لكنها فشلت، أو ربما “المخزن” (مصطلح يطلق على الدولة العميقة في المغرب) نجح في إفشالها، وضمن ذلك حزب “العدالة والتنمية”، الذي اتضح فيما بعد أنه لا يختلف عن الأحزاب البراغماتية الأخرى؟
حزب العدالة والتنمية كان دائماً حزباً براغماتياً. أنا هنا لست لأُصدر حكمَ قيمةٍ على حزب العدالة والتنمية. اعتبرت أن قوة هذا الحزب نابعة من براغماتيته، فضلاً عن توظيفه الديناميكية المجتمعية، والبراغماتية المفرطة تتحول في نهاية المطاف إلى مصدر ضعف، ويبدو أن هذا ما حصل.
الذي أريد أن أقوله جواباً عن سؤالك، في العلوم السياسية يجب أن نتحلى بكثير من التواضع، لا يمكن أن نزعم بالتنبؤ بالمستقبل، لكن هناك ظروف موضوعية، وهذه الظروف الموضوعية لا بد لها من محفز، يمكن أن يكون داخلياً كما يمكن أن يكون خارجياً. حراك الريف أثّر ويؤثر على بنية الدولة وعلى الأحزاب. هذا معطى، لا ندري كذلك فيما يخص مآلات الأزمة في الشرق الأوسط وتأثيرها على المغرب. نحن نعرف تاريخياً أن ما يعتمل بالشرق يؤثر في المغرب..
الدولة أو القصر غالباً ما يعتمد على مجموعة من الأوراق، كما حصل خلال الفترة الانتقالية ما بين الراحل الحسن الثاني والملك محمد السادس بالاستعانة بالاتحاد الاشتراكي الذي تم إقباره فيما بعد، وخلال حراك 20 فبراير/شباط بالاعتماد على “العدالة والتنمية” الذي انفجر مؤخرًا؟
ليس مخولاً لي الإشارة إلى ما ينبغي القيام به. ما يهمني هو أن أرصد بنية المجتمع وديناميكيته. ما يمكن أن أقوله، بغض النظر عن اللعبة السياسية أو كيف يمكن أن تعتمل، من خلال رصدي تطور المجتمع المغربي، هو أنه مجتمع قابل للتحديث سياسياً. وللتحديث السياسي قواعد، منها فصل السُّلط، وبنية الدولة بصفتها عقداً اجتماعياً تقوم على مؤسسات، وهذه أشياء غير متوافرة الآن.
لكن، هل السلطة العليا في المغرب واعية أو لها الإرادة لتحقيق ومواكبة هذا التطور المنشود؟
ليس هناك سلطة في العالم أو بنْية تغيرت لذاتها، كل السُّلط وكل المؤسسات تتغير تحت الضغط؛ إما داخلياً وإما خارجياً. مسألة وعي السلطة بذلك ليست مهمة في نهاية المطاف، إذا كنت واعياً بوضع معين ولم يكن هناك ضغط كي أتنازل، فلماذا تريدني أن أتنازل؟ الثابت أن كل بنْية لها سلطة أياً كانت السلطة، لا تتغير من تلقاء نفسها، المجتمع المغربي مقبِل على تحولات عميقة. لم يعد أحد يتستَّر على تعثر النموذج التنموي المغربي. وليس الأمر مستغرباً؛ لأنه استنساخ لمنظمة “بروتن وودس”، وهي إملاءات لبعض التقنيات التي أفضت إلى اختلالات في نظام الخوصصة، وتحرير المبادلات، ورفع اليد عن القطاعات الاجتماعية، مع بعض الأمور البسيطة ذات الطابع الاجتماعي التي لم تقضِ في نهاية المطاف على الفقر.
ومن الضروري أن نطرح أسئلة جوهرية بخصوص التوزيع العادل للثروة، وفيما يخص فصل السُّلط وحول الدولة ومسؤولياتها؛ لأن لها دوراً استراتيجياً وضابطاً، وليس مسهِّلاً فقط. والدولة، مؤسسات تقوم على قواعد غير شخصية وعامة. الدولة لا يمكن أن تُختزل في النظام، ودورها بالأساس لخدمة الصالح العام وليس لفئة.
أُعطي مثالاً بسيطاً؟ تكون دولة قائمة ما حينما يكون هناك تطابق بين العضو والوظيفة، عندما أتحدث عن وزارة التربية الوطنية وفق مفهوم الدولة فمعناه أنها تؤدي وظيفة التربية. لا يمكن أن أتحدث عن الدولة حينما تكون مؤسسة اسمها التضامن الاجتماعي ولا تؤدي وظيفة التضامن الاجتماعي، في فرنسا هناك شيء اسمه إدارة الأمن الوطني وتقوم بالأمن الوطني، في دول العالم العربي هناك مؤسسات تسمى الأمن الوطني ولا تقوم بمهمة الأمن الوطني.
هذه الإصلاحات التي تنادي بها، هل ممكن أن تدخلنا في مرحلة “عهد جديد” أخرى، تتشكل بين الملك كرئيس للدولة ويحظى بشرعية وثقة الشعب، والأخيرة كمجتمع مدني؟
مثلما قلتُ في لقاء مؤخراً، لا يمكن أن نبني الجديد إن لم نقم بعملية جرد، على كثير من الأفكار والتصورات التي عرفها الجسم السياسي المغربي، ونقف عند مواطن قوتها ومكامن ضعفها. ويبدو لي في جميع الحالات، أن الكثير من الخيارات -إنْ في الجانب الاقتصادي أو حتى السياسي أو الاجتماعي- كانت عبارة عن موضة أو استنساخاً لتجارب، مثل “المصالحة والحقيقة” بجنوب إفريقيا أو “ترانسبارنسي” التي فرضتها منظومة البنك الدولي.. لم نقدم تصوراً نابعاً من بنْية المجتمع المغربي؛ لذلك نحن نحتاج، وأتمنى أن يتاح لهذا الجيش من الباحثين أن يقوموا بدورهم، وبطبيعة الحال لن يقوموا بدورهم إن لم تكن هناك بنية حاضنة.
لا يمكن في نهاية المطاف أن نلقي بالمسؤولية على المثقف، لا بد من بنيات حاضنة، إلى جانب ضرورة توافر هامش من الحرية واستيعاب من لدن المجتمع، وإلا فسينتهي الأمر إلى جهود فردية معزولة أو جهود تقع تحت طائلة مؤسسات أجنبية تحتضن فعاليات لأجندات ذاتية أو لمطابقتها لمصالحها. في جميع الحالات، الظرفية التي نعيشها تخول للمثقف أن يضطلع بدوره. الوضع أصبح أكثر استعداداً لقبول المثقف، وأنا لا أقصد بالمثقف إنساناً يجترُّ ما كتبته الصحافة أو يزكّي وضعاً قائماً؛ بل المثقف الذي يقوم بدور نقدي بناءً على معرفة دقيقة وعميقة وليس على انطباعات، مع رسم مسافة مع الأشياء والأشخاص والظواهر؛ حتى لا يقع تحت تأثير الذاتية.
دائماً نعود للحديث عن المستفيدين من هذا الوضع القائم، أولئك الذين خلقوا شبكات من المصالح المتبادلة في جميع دواليب الدولة، هل سيبقون مكتوفي الأيدي؟
إذا كنا نعتقد أن السياسة لعبة ملائكة فإننا مخطئون، السياسة هي تضارب مصالح وتقارع آراء وتصورات. يمكن للمصالح أن تصطدم، ويمكن للأفكار أن تزعج مصالح، فليس مستبعداً أن يتمرد بعض الذين يحظون بوضع ريعي أو امتيازات، لكن لا أحد استطاع أن يقف ضد مسلسل التاريخ أو يوقفه. حينما نرى تاريخ المغرب والقيادات الكبار الذين مروا منه، كانت لهم سلطات واسعة داخل المغرب وخارجه، لكن هل استطاعوا أن يقفوا أمام ديناميكية التاريخ؟
فلذلك، لا أتوقع طبعاً ألا تكون هناك مقاومة، لكن كل مقاومة خارج منطق التاريخ آيلة للاندثار.
حسناً، اعتبرتم دائماً أن ما يحصل في المغرب هو امتداد لما سُمي الربيع العربي، الآن بعد مرور أكثر من 6 سنوات، هل ممكن أن نتكلم عن ربيع عربي مستمر، وماذا استفادت الشعوب؟
هناك الزمن التاريخي وهناك الزمن السياسي، ولا يتقاطعان بالضرورة، ليس لدينا مساحة زمنية كافية للتقييم. أول شيء، الوضع كان مأزوماً، لم يكن يستند إلى أسس قوية، وطبعاً الأسس القوية في الدولة العصرية هي السيادة الشعبية، والتوزيع العادل للثروة، والمشاركة في الحكم، وهذه أشياء مفتقدة في العالم العربي، الذي يبقى محكوماً من أوليغارشيات أو طغمات أو عشائر، ولا يمكن الحديث عن دولة بصفتها عقداً اجتماعياً.
الأنظمة استفادت من ظرفية معينة، إما في سياق الحرب الباردة، وإما فيما بعد في إطار الحرب على الإرهاب. ولكن في جميع الحالات، لم يكن هناك انسجام بين الحاكمين والمحكومين، كما أنها استفادت، بالنسبة لبعض الأنظمة، من طفرة الليبرالية الجديدة. تعثُّر الليبرالية الجديدة عرّى عن واقع الحال؛ لذلك لم يكن للمنظومة بالشكل الذي كانت عليه أن تستمر، وهو أمر كنت كتبت عنه قبل أن يندلع الربيع العربي في “مرآة الغرب المنكسرة”، ولم يكن من الضروري أن يكون الإنسان عرّافاً لكي يتنبأ بما وقع.
الآن بعد الذي وقع، يظهر أن ليس هناك رؤية، وهنا أتبنى ما قاله المفكر الأردني مروان معشر بأن اليقظة العربية الأولى التي اندلعت في بداية القرن العشرين كانت شأن نخب من دون جماهير، وأن اليقظة التي حدثت فيما يسمى “الربيع العربي” كانت شأن الجماهير من دون نخبة. لا بد للنُّخب من أن تضطلع بدورها. لربما قد نحتاج إلى أن نفكر في العالم العربي، هل يمكن أن نستمر بالتفكير في العالم العربي كما هو قائم حاليًا أو كما ارتسم عقب الحرب العالمية الثانية، أم أنه ينبغي أن نقيم تفكيراً جديداً؟
نحن نعلم مثلاً أن بلداً مثل العراق موزَّع بين أطراف وتأثيرات متعددة، البعد العربي أصبح بُعداً من الأبعاد. لذلك، في تصوري، لا بد أن نفكر في العالم العربي بناء على التطورات العميقة التي طرأت بالآونة الأخيرة.
لكن، يتضح في مجموعة من الأنظمة أنه بعد الربيع العربي لا شيء تغير؛ بل هناك انتكاسات في بعض البلدان ومآسٍ ببلدان أخرى؟
هذه الأفكار التي قد تبدو ساذجة من المنظور العربي. لا بد أن يكون هناك تصور معين، لا أدري إن كنا نستطيع أن نتحدث عن العالم العربي كبنية متكاملة، نحن ندرك الآن أن هذا العالم الفسيح تعتريه تمايزات ثقافية وأيديولوجية؛ بل تناقضات جوهرية، وهناك أولويات متضاربة ودرجات مختلفة في النمو، الصومال ليس هو الإمارات العربية وموريتانيا ليست هي لبنان، فلا ينبغي أن نقفز عن هذا الواقع.
من منظوري أنطلق من شيء: لا بد أن تكون هناك بنية ثقافية مشتركة من أجل البناء. أنطلق من وحدات منسجمة داخل هذا العالم العربي، بلاد المغرب بمعناها الكامل، ليبيا تونس والجزائر والمغرب وموريتانيا، وادي النيل ويضم مصر والسودان، والهلال الخصيب سوريا والأردن والعراق، ثم دول الخليج، هذا هو التقسيم الذي يبدو لي منسجماً ويستند إلى بنية ثقافية مشتركة. ليس لدي الشرعية في الحديث عن الأطراف الأخرى، لكن أؤمن لأني لست فقط باحثاً؛ بل لأني أريد أن أكون كذلك فاعلاً، أؤمن بوحدة مغاربية. هذا لا يعني أني أريد أن أقفز على الأنظمة ولا على الدول، لكن من الضروري أن نفكر في سياق جديد للاندماج الثقافي والاقتصادي والتنسيق السياسي.
لكن، قبل الحديث عن اتحاد مغاربي، لا بد من توافر شروط معينة أو حد أدنى من المستوى التعليمي والثقافي والاقتصادي..؟
لماذا لا نعكس المسألة، لنتَّحدْ أولاً. لربما فتْح الحدود هو الذي سيخلق ديناميكية ستؤثر إيجاباً على التربية والمناحي الاجتماعية والاقتصادية. قضايانا الثقافية متداخلة ومشتركة، منها مشكل اللغة، ومنها مشكل علاقة الدين والسياسة، ومنها دور الزوايا التي تتجاوز الإطار الجغرافي الخاص لكل بلد.
كل هذا يجعل من العسير على كل دولة أن تجد مخرجاً وحدها. آن الأوان، ليس فقط لاعتبارات ذاتية؛ بل لأن الضرورة تفرض ذلك الاندماج. لا معنى للتاريخ إن لم يفِد في فهم الحاضر. الفترات التي اضطلعت فيه هذه المنطقة بدور أساسي هي حينما كانت موحَّدة، سواء في عهد المرابطين أو الموحدين، فلا يمكن أن نضطلع بدور رائد -بالأخص في الوقت الراهن- إن لم نتحد، ليس بمعنى الانصهار، أنا أحترم بنيات الدول وأنظمة قائمة، لكن لا ينبغي لهذه الأنظمة والدول أن تكون حاجزاً وكابحاً لديناميات المجتمعات.