مغالطات الصفقة العسكرية بقيمة 460 مليار دولار بين الولايات المتحدة والسعودية /د. حسين مجدوبي

المقنبلة ب 2 سبريت الأغلى في تاريخ الصناعة العسكرية الجوية الأمريكية ولن تبيعها واشنطن لأي دولة

في بعض الأحيان تمر بعض الأرقام ضمن الأخبار السياسية، وتثير الدهشة، ولكن لا أحد يتوقف للتمحيص والتدقيق، خاصة إذا كانت هذه الأرقام مرتبطة بدول تعتبر في المخيال الجماعي غنية، مثل حالة بعض الدول الخليجية وعلى رأسها العربية السعودية. ومن ضمن الأرقام المثيرة توقيع السعودية لاتفاقيات اقتناء أسلحة بما يفوق 460 مليار دولار خلال العشر السنوات المقبلة مع الولايات المتحدة، ومنها قيمة صفقات سابقة.
وجاء الاعلان عن هذه الصفقة، خلال الزيارة التي قام بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الى الرياض في مايو الماضي، وكشف البيت الأبيض عن اتفاقيات سلاح بقيمة 460 مليار دولار، منها 110 صفقات جرى التوقيع عليها في الماضي، وأكدت السعودية هذه الصفقة وهذه المبالغ الضخمة. وأولت الصحافة العربية والدولية اهتماما كبيرا بهذه الصفقات الضخمة، ولكن لا أحد تساءل عن حقيقة معطيات هذه الصفقة، التي تعتبر نظريا الأكبر والأضخم من نوعها في التاريخ، بين دولة وأخرى باستثناء قيمة الصفقات الداخلية مثل صفقات البنتاغون مع شركات تصنيع أسلحة أمريكية.
وقيمة 460 مليار دولار، تدفعنا للتساؤل: هل المبلغ يعكس الواقع العسكري؟ ثم هل الجيش السعودي مستعد لتوظيف كميات هائلة من العتاد العسكري الأمريكي؟ وهل يملك الخبرة الكافية؟ علاوة على ذلك: هل المصانع الأمريكية قادرة على تلبية صفقات من هذا الحجم لدولة واحدة؟ وأخيرا، ما هي نوعية العتاد العسكري الذي ستقتنيه السعودية من الولايات المتحدة؟ انطلاقا من تصريحات المسؤولين الأمريكيين والسعوديين تبلغ قيمة الصفقة 460 مليارا، ومنها 110 مليارات دولار تهم صفقات وقعت في الماضي، وبالتالي نحن أمام 350 مليار دولار بمعدل 35 مليار دولار سنويا خلال العشر السنوات المقبلة. لكن لم يتم تقديم أي معطيات دقيقة حول الصفقة، نوعية الأسلحة وتاريخ التسليم. من أهم الوثائق الدقيقة حول مبيعات الأسلحة في العالم هي التقارير الصادرة عن «مصلحة الكونغرس للدراسات» أو «مصلحة الكونغرس للبحث»، وهو جهاز مرتبط بالكونغرس الأمريكي، وتعتبر تقاريره ذات مستوى عال جدا، وفي أغلب الأحيان تكون سرية مع بعض الاستثناءات، يتم الإفراج عن بعض الوثائق والتقارير.
وفي تقرير لهذه المصلحة صدر منذ سنة حول مبيعات الأسلحة في العالم ما بين 2008 الى 2015، يبرز أن العربية السعودية اقتنت ما قيمته 30 مليار دولار من الأسلحة، أكثر من 16 مليار دولار من الولايات المتحدة و11 مليارا و400 مليون دولار من دول أوروبا الغربية ومليار و600 مليون دولار من أوروبا الشرقية ومليار و300 مليون دولار من الصين. وهذا يعني اقتناء هذا البلد ما قيمته أربعة مليارات و200 مليون دولار سنويا، واقتنت من الولايات المتحدة مليارين و300 مليون دولار سنويا . وهذه الأرقام تهم الأسلحة التي جرى تسليمها فعليا إلى الجيش السعودي، وليس الحديث عن صفقات جرى التوقيع عليها ولم تنفذ.
نعم، وقعت وأعربت الرياض عزمها ما بين 2008 إلى 2015 اقتناء ما قيمته 93 مليارا و500 مليون دولار من صفقات الأسلحة من مختلف مزوديها، لكنها توصلت فقط بـ 30 مليار دولار من الأسلحة، أي الثلث. ووفق المبالغ المعلن عنها، فستضاعف السعودية مشترياتها من الأسلحة الأمريكية بما يفوق 17 مرة من 2018 الى 2028 مقارنة مع 2008-2015. وهذا سيجرنا الى تساؤل آخر، ما هي نوعية الأسلحة التي ستقتنيها السعودية خلال العشر السنوات المقبلة وتتطلب هذا المبلغ الضخم؟ لم يكشف الجانب الأمريكي ولا الجانب السعودي عن نوعية الأسلحة، ونجد أنفسنا أمام تكهنات. في هذا الصدد، أغلى ما تنتجه الصناعة العسكرية الأمريكية هو حاملات الطائرات والصواريخ النووية، الأولى تقدر ما بين عشرة مليارات دولار الى 13 مليار دولار، والثانية لا تعرف قيمتها المالية لأنها لا تباع. وفي الوقت نفسه، هناك غواصة دكوتا الجنوبية التي تساوي مليارين و200 مليون دولار، وعلاقة بسلاح الجو، أغلى طائرة هي المقنبلة الاستراتيجية (ب 2) التي يقارب ثمنها مليار دولار. ولن تبيع الولايات المتحدة أي سلاح من هذه الأسلحة الإستراتيجية الى العربية السعودية، بل ربما لن تبيعها خلال العشر السنوات المقبلة حتى طائرة (أف 35 ) التي تساوي 200 مليون دولار للواحدة.
وفي جانب عسكري آخر، يعتبر الجيش السعودي محدود التجربة، رغم قواته التي تتجاوز الـ400 ألف. ولم يخض هذا الجيش حروبا قتالية خلال الثلاثة عقود الأخيرة، باستثناء الحرب الدائرة في اليمن حاليا، ولم ينجح في حسمها رغم دعم دول أخرى ضمن ما يسمى «التحالف العربي». وجيش بهذه المواصفات المحدودة لا يمكنه نهائيا استيعاب عتاد عسكري بقيمة 460 مليار دولار خلال عشر السنوات. في الوقت ذاته، تعتبر مصاريف صيانة عتاد عسكري بقيمة 460 مليار دولار كابوسا حقيقيا لدولة ذات اقتصاد متوسط مثل السعودية.
ستقتني السعودية نظام «دفاعي ثاد» ضد الصواريخ الباليستية ومئات الدبابات وستتسلم ما تبقى من (أف 15) المحسوبة على عقود تعود الى سنة 2011. وستكون كميات السلاح محدودة، وستنتظر سنوات حتى تتسلمها، لأن شركات السلاح لا تنتج بالكميات نفسها مثل شركات السيارات. وفي أحسن الحالات، لن تتعدى مقتنيات العربية السعودية من الأسلحة خمسة أو ستة مليارات من الدولارات سنويا، وهذا يعني 60 مليار دولار على مدى عقد من الزمن. ويبقى مبلغ 460 مليار دولار من باب الخيال. وإذا سلمنا بقيمة 460 مليار دولار، فهذا يعني اقتناء السعودية سنويا لحاملات طائرات وغواصات ومقنبلات (ب 2) وطائرات التجسس المتطورة، وهذا مستحيل بطبيعة الحال.
وطيلة رئاسة كل من الرئيس جورج بوش الابن وخلفه باراك أوباما وقعت الولايات المتحدة صفقات عسكرية بقيمة تناهز 388 مليار دولار و993 مليون دولار (123 مليار دولار و28 مليونا إبان حكم جورج بوش و265 مليار دولار و955 مليون دولار في عهد أوباما) منها صفقات لدول حليفة مثل اليابان والنرويج وإيطاليا وأستراليا وأخرى مثل السعودية والمغرب والهند، ولكن جرى تسليم الثلث منها فقط، وحدث هذا على امتداد 16 سنة بالكامل، فكيف ستستوعب العربية السعودية لوحدها خلال عشر سنوات 460 مليار دولار من الأسلحة في عشر سنوات؟
لو كانت السعودية تمتلك نظرة ثاقبة للمستقبل لكانت قد وظفت مواردها المالية في إرساء صناعة عسكرية مثل تلك التي أرستها كل من تركيا وإيران وباكستان في المنطقة، بدل التلويح بصفقات أسلحة خيالية بعيدة عن الواقع، لكن الرياض لا تمتلك مخططات استراتيجية، بل توظف سلاحها الذي تشتريه في تهديد وغزو الجيران مثل المأساة التي تسببت فيها في اليمن.

Sign In

Reset Your Password