يتعرض العلماء المسلمون مع التحولات السياسية للربيع العربي إلى مزيد من التصدع والتشقق، وإلى كثير من الانقسام والتفتت جراء التطورات السياسية التي تشهدها بلدان العالم الإسلامي وخاصة في حوضه العربي الذي يعيش حراكا جامحا بحثا عن أفق بديل يكسر صيغة الاستبداد التي أفرغت في قوالبها النظم العربية وشعوبها على حد سواء، ويحدث هذا التشقق مع تجذر عدم التواقف بين العلماء المسلمين حينما اصاب تطاير شظايا هذا الحراك عصب مذاهب دينية إسلامية تمسك بالسلطة، فحدث شرخ بين علماء السنة والشيعة مع ازمة سوريا وحتى قبل ذلك في البحرين واليمن وحتى العراق في فترة ما بعد صدام حسين. ثم مس علماء السنة فيما بينهم قرح التقسيم وذلك على صخرة الازمة المصرية فصاروا فريقين : علماء مناصرون للاخوان المسملين في مواجهتهم للنظام العسكري الحاكم حاليا في مصر، و علماء آخرون مناصرون للقائد العسكري عبد الفتاح السيسي في عزله للرئيس المصري محمد مرسي وإنهاء حكم الإخوان المسلمين في مصر. ويذكي الفرقة بين العلماء المسلمين ليس الخلاف الفقهي الديني بل ارتباطهم على نحو ما بسلطة سياسية حاكمة. وعجز العلماء المسلمين في هذه المرحلة العصيبة النأي بانفسهم عن الانقسامات السياسية التي يعيشها العالم العربي، وضمان خطاب ديني موحد متعال على الاختلافات الطائفية يستطيع أن يعيد اللحمة لجسد العالم العربي والإسلامي ويقيها من انفراط عقدها لكن من دون ان يلغي الاختلاف الذي هو مصدر للغنى، وان ينخرط إلى جانب الخطابات الاخرى الإصلاحية والثورية في الاخذ بيد المجتمع العربي الذي يقاوم ظلمة الاستبداد وجهالة التخلف إلى بر التحرر والتقدم والديمقراطية.
العلماء السنة والشيعة المسلمون تفتت وحدتهم على صخرة ازمة سوريا
عمقت الأزمة السورية التي يواجه فيها نظام بشار الأسد قوى حية واسعة من شعبه، ضمن تبعات وصول رياح الربيع العربي إلى هذا البلد بعد ان كان مر من تونس ومصر و ليبيا و اليمن، التشقق بين العلماء المسلمين الشيعة والعلماء المسلمين السنة، حيث كل طرف منهم انتصر لفريقه طائفيا من دون الاحتكام إلى جوهر الازمة الحقيقي المرتبطة بالحرية وبدمقرطة النظام السياسي. واصبحت عناوين الأحداث الاحتجاجية تتخذ صيغة مواجهة بين طوائف دينية ساهم في تاجيجها علماء من الطائفتين، ولم يكن ينظر إليه على انه تدافع و صراع سياسي بين سلطة مستبدة بنفس الملامح السياسية في باقي البلدان العربية الاخرى، وبين معارضة شعبية تقاوم ذات النصيب من القمع والاستبداد التي تئن تحت وطئها باقي الشعوب العربية والإسلامية الاخرى.
ويرى مهتمون انه مع دخول هذا التدافع في سوريا بين السلطة والمعارضة مرحلة السلاح والدم وسقوط الضحايا والقتلى، ارتفعت وتيرة التدافع الطائفي بين علماء مسلمين وآخرين سنة، وبات حطب رحى الحر ب الدائرة يؤجج من لهيبها. وباتت عناوين الجبهات هي الطائفة العلوية ضد الطائفة السنية.
ويعتبر مراقبون أن التحاق عاملين أساسيين بهذه المواجهة سوف تأخذ التصدع في جدار العلماء المسلمين السنة والعلماء المسلمين الشعية إلى أبعد مدى . وهذان العاملان هما: أولا التحاق جماعات إسلامية سنية سلفية متشددة متربطة بالقاعدة إلى صفوف المعارضة السورية التي تواجه نظام الاسد، وثانيا دخول حزب الله في الحرب الدائرة إلى جانب النظام السوري. ولعل ذلك كله جعل الخطاب الطائفي بين العلماء السنة والشيعة يبرز بإيقاع اكبر ويحتدم بوتيرة أسرع ويهيج المواجهات والصراع بحقد طائفي أكبر، وروج العلماء انفسهم من كلا الطائفتين للعناوين المذهبية اكثر من أي عنوان اخر. و ساهم فيه أيضا الإعلان الصريح لبلدين على طرفي نقيض سياسي وهما إيران والسعودية بدعم اطراف الأزمة السورية بخطاب تحريضي سواء عسكريا او دينيا.
غير ان بداية التشقق بين علماء السنة والشيعة يجد أصوله راهنا في فترة ما بعد الحرب على العراق، وهيمنة قوى دينية شيعية على النظام السياسي بهذا البلد، ثم قمع السلطة السنية في البحرين للحراك البحريني ذي النواة الشيعية المطالب بالديمقراطية على خلفية حراك الربيع العربي، فتدخلت السعودية لقمعه وتهاون علماء السنة في إدانة تدخل عسكر الرياض لقمع المتظاهرين البحرينيين. وبات العلماء المسلمون راهنا شيعا وطوائف كل عالم بطائفته متعصب يلغي بعضهم بعضا، إلا من رحم ربك من ا لعلماء الذين ظلوا على مسافة من هذا الوادي الطائفي.
أزمة مصر تعمق التفرقة بين العلماء المسلمين السنة فيما بينهم هذه المرة بنزعة سياسية وسلطوية
احدث زلزال ازمة مصر منذ تدخل الجيش وعزل الرئيس محمد مرسي وإنهاء حكم الإخوان المسلمين وفك اعتصام رابعة العدوية بالتدخل العسكر ي والأمن العنيفين اللذين خلفا مئات القتلى وآلاف الجرحى ومئات المعتقلين السياسيين، مزيدا من التشقق والتصدع فيما تبقى من الجسد الموحد للعلماء المسلمين، وامتد الإسفين ليندق بين العلماء السنة انفسهم الذين قسمتهم ارتباطاتهم السياسية والإديولوجية وعلاقتهم با لسلطة السياسية الحاكمة او بقوى دينية مختلفة. وبدلا من التعصب الطائفي والمذهبي الذي استحكم في الازمة السورية نشطت في الازمة المصرية التعصب السياسي والسلطوي فوجد السنة انفسهم فرقا وشيعا كل حزب بما لديه فرح.
وقد ناصر علماء سلفيون من الطينة الوهابية وخاصة علماء العربية السعودية الرسميون التدخل العسكري بقيادة القائد عبد الفتاح السيسي لعزل الرئيس محمد مرسي وإنهاء حكم الإخوان المسلمين، وبارك علماء من مثل مفتي عام السعودية الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ على نحو ما الوضع الذي سمح بتحكم العسكر ، ودعا خطباء المساجد إلى عدم إشغال المصلين “بامو ر السياسية ” في إشارة إلى الازمة المصرية. وكذلك فعل خطيب المسجد الحرام و إمام الحرم المكي الشيخ السديس ، حينما بارك التدخل العسكري في الحياة السياسية المصرية وذلك من خلال تاييده الشديد وإشادته القوية بالموقف السعودي الرسمي الذي دعم ماليا ومعنويا إسقاط حكم الإخوان المسلمين. ويتحكم في موقف هؤلا ء العلماء من الازمة المصرية ارتباطهم السياسي بالسلطة السياسية التي ترسم لهم سقف الخطاب الدينى واجندته.
وانطلاقا من نفس الاعتبار وهو الارتباط السياسي بالسلطة السياسية الحاكمة تبلور خطاب سياسي لعلماء سنة مصريون منهم أحمد الطيبي شيخ الازهر وكذلك علي جمعة مفتي الجمهورية المصرية السابق واخرون الذين أيدوا بشكل قوي إنهاء حكم الإخوان المسلمين بتدخل عسكري وعزل للرئيس مرسي وتفيك اعتصام انصار مرسي بالقوة في رابعة العدوية.ومع هذا الخطاب يتمترس هذا الفريق من العلماء المسلمين سواء سعوديين أو مصريين في ضفة وادي النيل حيث معسكر السلطة العسكرية الحاكمة في مصر في مواجهة مع الضفة الاخرى المعارضة المرتبطبة بالإخوان المسلمين ويبرز منهم علماء من مصر مثل الشيخ يوسف القرضاوي والشيخ راشد الغنوشي من تونس واحمد الريسوني من المغرب وكلهم يرتبطون على نحو ما وبتفاوت بالأخوان المسلمين يقفون ضد معسكر العلماء الاخرين الذين يؤيدون الحكم العسكري بمصر.
الحاجة إلى علماء مسلمين يتعالون بخطاب ديني إصلاحي وثوري عن التصدعات الطائفية والسياسية ويوحدون المجتمع على قيم التحرر والعدالة والديمقراطية
و يتقاسم العديد من المراقبين موقفا يرون فيه أن اختلاف المواقف بين هؤلا ء العلماء وهم الذين لهم تاثير كبير على الرأي العام الديني في العالم الإسلامي، حول ازمة عميقة يمر منها العالم العربي ويسقط فيه ضحايا وقتلى وتجد معها نظم سياسية انفسها مهددة، يصبح مصدرا للتفرقة ولشحذ همم النزاع والتدافع غير السلمي متى جرى تصريف ذلك الاختلاف بغرض سياسي، ومادام أن هناك اطراف معنية بان لا يكون هناك تدافع سلمي ولا ديمقراطي بالنظام السياسي. هذا في الوقت الذي كان من المفروض ان يكون الخلاف والاختلاف والتعدد والتنوع الديني والثقافي والطائفي والعرقي مجتمعا وفكرا وعقيدة في العالم العربي احد داوعي الديمقراطية التي ينزف دم الشعب العربي من اجلها.
ويرى منتقدون لمواقف العلماء الذين تخندقوا داخل قوالب طائفية او مذهبية أو سياسية او سلطوية في نظرتهم للاحداث التي يمر منها العالم العربي خلال تحولات الربيع العربي، ان تلك القوالب حبست عنهم فضيلة الأرتقاء إلى اعلى من سقف وجدران المذهب او الطائفة او ما وفوق ابواب السلطان العالية، ليروا ما هو ممكن خارج تلك الحدود.
ويرى آخرون انه مع هذه الاحداث لم يستطع العلماء المسلمون السنة والشيعة على حد سواء بلورة خطاب ديني متعال على هذه التفرقة التي تحركها نوزاع ساسية، ولم يستطيعوا ان يضمنوا ما يحتاجه المجتمع العربي المتنوع دينيا من صمام امان لوحدته وتشكيل جبهة مستقلة تقاوم الاستبداد السياسي في الوطن العربي الذي يغتنم من الاختلا ف الديني ويلعب على حباله المتنوعة لعزف خطاب الطائفية والتفرقة لضمان سيطرته وتحكمه.