اختار الشعب التونسي السياسي الباجي قايد السبسي رئيسا في أول انتخابات ديمقراطية (جرت خلال ديسمبر الماضي) تشهدها البلاد منذ استقلالها، وقد تكون الاستحقاقات الأكثر شفافية التي يشهدها العالم العربي منذ موجة الاستقلال في الأربعينات والخمسينات. ورغم انتماء السبسي الى حقبة كل من الرئيسين الدكتاتوريين السابقين لحبيب بورقيبة وزين العابدين بنعلي إلا أن هذا ليس مؤشرا على عودة الحرس القديم وإن حضرت أسماء من هذا الحرس في تحمل مسؤوليات سياسية ومؤسساتية مستقبلا. والتجربة التونسية تؤكد استمرار الربيع العربي وتؤكد امتداده زمنيا رغم العراقيل. وفي الوقت ذاته، تنضاف هذه التجربة الى التجارب الرائدة بشأن إرساء الديمقراطية مثل تجارب اسبانيا والبرتغال في السبعينات والتشيلي في التسعينات رغم اختلاف السياقات الدولية والمجتمعية.
وضمن الانتخابات التي جرت بعد انفجار الربيع العربي، تبقى التونسية هي الوحيدة التي حازت على تقدير حقيقي من طرف الدول الديمقراطية. فالشعب التونسي له شرف تفجير الربيع العربي-الأمازيغي، كما له شرف بناء أول مؤسسات ديمقراطية، البرلمان والرئاسة، عبر صناديق الاقتراع
وما بين انفجار الربيع العربي ديسمبر 2010 الى انتخاب أول رئيس بشفافية ديمقراطية خلال ديسمبر 2014، استطاعت تونس تجاوز الاضطرابات الداخلية الشائكة والخطيرة ومنها الإرهاب الجاثم ونجحت في إرساء مؤسسات. وهذه التجربة جديرة بالدراسة لأنها تحمل دلالات سياسية ذات امتداد مستقبلا.
وترسم التجربة التونسية مسيرتها بنجاح لأنها تقترب من نماذج انتقال ديمقراطي شهدتها دول خلال الربع الأخير من القرن العشرين ونجملها في اسبانيا والبرتغال والتشيلي. ويبقى القاسم المشترك بين التجربة التونسية والتجارب الدولية المذكورة هو ما يلي:
-ارتفاع وعي وسط المجتمع بحكم ضعف الأمية في تونس مقارنة مع أغلب دول العالم العربي، وارتفاع الوعي يساعد الرأي العام في استيعاب اللحظة التاريخية والتأقلم مع التطورات والاستجابة للتغيرات. وما يحدث في تونس حدث في دولة مثل اسبانيا سنة 1975 عند رحيل الدكتاتور الجنرال فرانسكو فرانكو وبدء الانتقال الديمقراطي.
-وجود مجتمع مدني نشيط رغم القمع الذي مارسه نظام زين العابدين بنعلي طيلة السنوات التي حكم فيها، هذا المجتمع المكون من عناصر الطبقة الوسطى مثل المحامين والأطباء والأستاذة الذين في ظل صعوبة ممارسة السياسة انغمسوا في المجتمع المدني ومع حدوث الانتقال السياسي انغمسوا في السياسة بسهولة. وهذه من الصفات التي ميزت النشاط المدني في اسبانيا قبل رحيل الجنرال فرانسيسكو فرانكو وفي التشيلي قبل انسحاب الدكتاتور أغوستو بينوتشي من الحكم. وشكلت في الحالات الثلاث ومنها التونسية تغذية العمل السياسي بسهولة، الأمر الذي لم يحدث في الحالة الليبية مع سقوط معمر القذافي أو الحالة اليمنية.
-تخلي الحركات السياسية التي تنعت بالراديكالية والمتطرفة عن تطرفها مقابل الرهان على الاعتدال. فقد قام الحزب الاشتراكي الاسباني بالتخلي عن راديكاليته، كما قام الحزب الشيوعي بالتخلي عن أطروحاته الثورية الرامية الى “اسبانيا شيوعية. وهذا يتكرر في حالة حزب حركة النهشة التونسي الذي يعتبر أول حركة إسلامية تنتقل من الخطاب المتطرف الى الخطاب المعتدل وتشكل توازنا سياسيا هاما في المجتمع التونسي، تمنع أي درة ديمقراطية، وتمنع الانزلاق نحو العنف. وفي حالة المقارنة مع الليبية، فقد حدثت قطيعة، الأمر الذي يؤدي الى الفوضى السياسية الحالية، وبدرجة أقل في حالة اليمنية.
-الرهان على التوافق والاعتماد على عناصر تنتمي ال مختلف المعسكرات السياسية الحرس القديم والبديل المفترض بدون إقصاء حقيقي بل اختيار العناصر المتنورة، وهذا يعتبر من أهم عناوين نجاح عمليات الانتقال الديمقراطي. فقد قاد الانتقال الديمقراطي في اسبانيا حزب من داخل المؤسسة العسكرية والوطنية الدكتاتورية وهو حزب “اتحاد الوسط الديمقراطي” بزعامة أدولفو سواريث الذي كان وزيرا في الحكومة إبان الديكتاتور فرانسيسكو فرانكو وصوت عليه الشعب في انتخابات ديمقراطية. وقاد الانتقال الديمقراطي في البدء ومنذ 1990 في التشيلي باتريسيو أيولين بالتعايش مع مؤسسة عسكرية بزعامة أغوستو لبينوتشي. ورغم اختلاف السياق، فهذا يتكرر في تونس مع القائد الباجي سبسي الذي عمل في الدكتاتورية ولكنه بقي نسبيا نظيفا مقارنة مع آخرين. وكما لم تسمح الظروف لسواريث بالعودة الى ممارسات ديكتاتورية، فالقائد السبسي في تونس لم يتجرأ على استعادة روح النظام القديم. ولم يحدث هذا في الحالة الليبية، كما لم يحدث في الحالة المصرية التي لم تراعي قوة المعسكر القديم الذي عاد الى السلطة عندما حانت الفرصة. وحاول المعسكر القديم العودة الى السلطة في اسبانيا من خلال انقلاب 23 فبراير 1981، لكنه فشل لأن عناصر الحرس القديم المتنورة هي التي أفشلته.
-في ارتباط مع النقطة السابقة، تفادي حدوث القطيعة بمعنى ثورة نظام جديد ضد نظام قديم، فتونس تعيش تطورا نوعيا، إذ بقت المؤسسات نفسها لكن الجديد فيها هو الشفافية في الانتخابات وبدء ربط المسؤولية السياسية بالمحاسبة. وهذا هو ما يميز الانتقال الديمقراطي في دول مثل البرتغال والتشيلي، أي تفادي القطيعة وفي المقابل تطوير المؤسسات المتواجدة أصلا. ويختلف الأمر هنا في اسبانيا التي انتقلت من جمهورية في عهد فرانكو الى ملكية في عهد الملك خوان كارلوس. وتفادي القطيعة يسمح باستقطاب الأطر المكونة التي كانت تعمل في النظام السابق وتتكيف ديمقراطيا وتساهم في التطور.
من جانب آخر، كما كانت تونس مهد انفجار الربيع العربي والانتفاضات نحو الديمقراطية، تؤكد من خلال أول انتخابات رئاسية، هي الأولى التي تجري في شفافية مطلقة في العالم العربي، امتداد الربيع العربي-الأمازيغي مستقبلا لأنه يقوم على الأفكار التي لا يمكن قمعها خاصة في ظل تطور شبكات التواصل الاجتماعي.
فهذا الربيع لا يمكن حصره زمنيا في سنة أو سنتين في منطقة كانت ضحية الاستعمار لعقود طويلة، وتستمر ضحية الاستبداد والفساد وغارقة في الأمية وتغيب عنها ثقافة سياسية، فهي لا تستطيع تحقيق قفزة سياسية نوعية نحو الديمقراطية في ظرف زمني قصير، بل يتطلب الأمر تكوين جيل كامل على ثقافة ديمقراطية.
وتشكل التجربة التونسية علامة على هذا الوعي الجديد في العالم العربي المتمثل في بدء سيادة فكر تحرري جديد قد توقفه الدبابة مؤقتا مثل حالة مصر وبتمويل خليجي ولكن لن توقف مسيرته النهائية. وتتطلب التجارب الديمقراطية والتحرر الفكري عقودا من الزمن لتنجح، وذلك وفق ما يكشف التاريخ من تجارب سياسية في هذا الشأن ومنها التجربة الإسبانية والتشيلينية.
ويبقى الانتقال الديمقراطي في تونس حالة تغني التجارب الديمقراطية في العالم، وما يجعلها متميزة على الإسبانية والتشيلينية بل وكذلك في أوروبا الشرقية أنها لم تقم على إرث سياسي ديمقراطي سابق، فهذه الدول كانت قد عاشت الديمقراطية قبل حلول الديكتاتورية. في الوقت ذاته، نجحت التجربة التونسية في سياق معقد، فعكس اسبانيا التي وجدت دعما أوروبيا بحكم انتماءها للغرب ووجدت في تجارب بريطانيا وفرنسا نموذجا، فتونس لم تجد نموذجا في العالم العربي، وتعاني من سياق متفجر مثل العالم العربي.
وبهذا، تأخذ تجربة تونس موقعا كنموذج رائد ضمن أنجح عمليات الانتقال الديمقراطي مثل اسبانيا والتشيلي والبرتغال.