لم يكن حدثا عاديا حلول وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر في كل من تونس والجزائر والرباط، في 30 سبتمبر إلى غاية 2 أكتوبر، قبيل الانتخابات الرئاسية الأمريكية، لوضع سكة السياسة الخارجية في المنطقة المغاربية، قبل أن تحل إدارة جديدة تحتاج الوقت لدراسة الملفات ووضع الأوليات، بعد فترة من غياب الإدارة الأمريكية عن المنطقة، بالنظر إلى توجه ترامب الذي لم يكن يولي أهمية للحضور الدبلوماسي الأمريكي.
لم يتسرب شيء كثير عن الزيارة، عدا المحاور الكبرى للتعاون ضد الإرهاب، والتنسيق الأمني في منطقة الساحل، وضمان الأمن والاستقرار وحرية الملاحة في حوض البحر الأبيض المتوسط، والتعاون العسكري، في ما رشح في الإعلام الرسمي.. لكن المطلعين يعرفون أن الغاية من الزيارة هي الصين، والسعي لاحتواء تغلغلها الاقتصادي والمالي والثقافي. فعلى خلاف الاتحاد السوفييتي زمن الحرب الباردة، تتوفر الصين على قوة ناعمة مؤثرة واقتصاد قوي. والرهان بالنسبة للولايات المتحدة ليس اجتياح الصين للأسواق المغاربية، فحجم المبادلات بين البلدان المغاربية مجتمعة يظل متواضعا، مقارنة مع دول الخليج، لكن المهم هو موقع الدول المغاربية واعتبارها حلقة بين افريقيا وأوروبا.
طبعا تبقى، من منظور أمريكا، الاعتبارات الأمنية في الساحل وفي ليبيا قائمة، ولكن الزيارة في حد ذاتها دعوة للدول المغاربية لتموقع استراتيجي جديد، في ظل الحرب الباردة الجديدة. للصين حضور لافت في البلدان المغاربية، فهي أول زبون للجزائر، وفاقت مبادلاتها التجارية مع الصين تلك التي لها مع فرنسا، وتنشط في البنيات التحتية من موانئ وطرق وسكن، ولها قاعدة صناعية في تونس، من خلال شركة هاي ـ مغرب Haï Maghrebموجهة نحو افريقيا، وعرفت العلاقات الصينية مع المغرب زخما في غضون العشر السنوات الأخيرة، في شتى المجالات، من بنيات تحتية وتحويل الصناعات في المنطقة الصناعية لطنجة موجهة للتصدير نحو أوروبا، فضلا عن ارتفاع طلب الصين للفوسفات، مع أدوات بنكية نافذة. السياق الجديد المترتب عن ظهور الحرب الباردة بين الصين والولايات المتحدة من شأنه أن يعصف بهذا الرصيد.
اللافت في الزيارة أن الدول الثلاث دخلت خانة الحرب الباردة، تونس والرباط لتؤكدا عمق العلاقات الاستراتيجية بينهما وبين الولايات المتحدة، والجزائر التي حرصت على أن تبعث رسالة من خلال استقبال رئيس أركان الجيش الوطني سعيد شنقريحة لمسؤول روسيا ديمتري شوفايف مدير المصلحة الفيدرالية للتعاون العسكري والتقني للفيدرالية الروسية، في الوقت الذي استقبل فيه الرئيس الجزائري المسؤول الأمريكي. الرسالة واضحة، تنخرط الجزائر مع الولايات المتحدة في الملفات التي تتهدد الأمن والاستقرار في الساحل، وتُبقي علاقاتها متميزة مع روسيا مزودها العسكري الأول.
الحرب الباردة بدأت، وسيكون على الدول المغاربية أن تلتئم مع هذا المعطى الجديد. ويبدو من تحرك وزير الدفاع، وقبله حلول وزير الخارجية مايك بومبيو في نوفمبر 2019، في الرباط، أن الولايات المتحدة، على خلاف بدايات إدارة ترامب، تسعى إلى إعادة الانتشار والحضور في منطقة استراتيجية، أو تسترجع المنطقة بُعدها الاستراتيجي، بالنظر إلى التنافس القائم بين الصين والولايات المتحدة. تنظر الولايات المتحدة بتوجس لطريق الحرير الصيني، مثلما لا تتورع عن انتقاد الخط الرقمي الكبير 5، أو تهديد أي تعامل مع شركة هواي، وتنتقد سياسة القروض التي تنهجها الصين حيال البلدان الافريقية.
وتنظر الولايات المتحدة بتوجس كذلك إلى أدوات الصين الناعمة، كما معاهد كونفوشيوس في المغرب، والمنح للطلبة للدراسة في الصين، والانفتاح على المجتمع المدني. وتعمد الإدارة الأمريكية لتسليط الضوء على ما يعانيه مسلمو الإيغور من مضايقات، باسم حقوق الإنسان. من المتوقع أن تنصاع كل من تونس والرباط إلى التوجه الاستراتيجي الجديد في ركاب الولايات المتحدة، وتنأى عن الصين، بالنظر لعلاقاتها التاريخية مع واشنطن، ومصالحها معها. اتسمت سياسة الرباط بتنويع الشركاء، ولكن لا يبدو في ظل الحرب الباردة الجديدة، إمكانية استمرارية ذلك، فما يطبع المرحلة الحالية هو منطق لعبة المجموع صفر، أي أن أي أمر إيجابي للخصم يعتبر سلبيا للطرف الآخر، والعكس صحيح، على خلاف منطق رابح رابح.
التطور الجديد سوف ينعكس على طبيعة العلاقات العامة في داخل كل دولة من دول المغرب، التي سيؤول تدبيرها إلى تكنوقراطيين، وسيتوارى دور السياسيين، وستستفحل الرِّدة الديمقراطية، وسيؤثر كذلك على العلاقات البينية بين الدول المغاربية، إذ من المستبعد، في ظل الانشطار الأيديولوجي على مستوى العالم، أن يبرز انفراج بين الرباط والجزائر، ومن الوارد أن يقوم محور الرباط تونس. ومن المرجح وفق التوجه الجديد أن تمارس الولايات المتحدة على كل من الرباط وتونس ضغوطا، في ما يخص ملف الشرق الأوسط، في شكل من أشكال ربط علاقات دبلوماسية مع إسرائيل. ترفض الولايات المتحدة مصطلح التطبيع، وتتبني عوضه مصطلح ربط علاقات دبلوماسية مع إسرائيل. وستكون الدول المغاربية بعد دول الخليج والسودان، الحلقة التي ستشتغل عليها الإدارة الأمريكية في أفق التطبيع مع إسرائيل، على كل من تونس والرباط ونواكشط. وقد سبق للرباط في بيان للخارجية أن نوهت بصفقة القرن، وما تضمنته، حسب البيان، من «عناصر إيجابية». النتيجة هي احتدام التوتر بين الأنظمة الحاكمة في البلدان المغاربية وشعوبها، وانتكاسة لكل المسار الديمقراطي الذي انبني في الدول المغاربية، في غضون العشر السنوات الأخيرة، مع تضييق مجال الحرية والرأي.
الحرب الباردة الجديدة لا تأتي بأخبار سارّة للشعوب، ومن المتوقع أن تُغيّر الصين سياستها نحو المنطقة وفق أسلوب ما تسميه بالذئب المحارب، وتوظف أدواتها الناعمة في المنطقة المغاربية لمناكفة الولايات المتحدة، وأن ترد الصاع صاعين للولايات المتحدة، بالنظر لقوتها الناعمة، وأيديولوجيتها كذلك.