اقتنت الملكة اليزابيث قصرا فخما في الإمارات العربية، وفتح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حسابا بنكيا في المغرب، واقتنت المستشارة الألمانية أنجليكا ميركل باسم مستعار أسهما في شركة مصرية، وتبرع ملك إسبانيا فيلبي السادس بهدايا بمئات الآلاف من اليوروات لمسؤولين عرب، وجاء ذكر ملك السويد في وثائق الحسابات الخاصة في البنوك السويسرية.
بدون شك مثل هذه الأخبار تشكل مفاجأة حقيقية للقارئ، بحكم الصورة الإيجابية التي لدى الرأي العام الدولي، حول القادة السياسيين الغربيين، من ملوك ورؤساء حكومات، ومن دون شك لن يصدق الخبر سوى نسبة تقل عن واحد في المئة. لكن إذا غيرنا الأسماء بمسؤولين عرب، والأماكن الجغرافية بأخرى من أوروبا وأمريكا بمعنى اقتناء المسؤولين العرب عقارات في باريس ولندن ونيويورك وجنيف، وفتحهم حسابات في مختلف البنوك، التي تضمن السرية، على شاكلة تعاملات المافيا، وقتها القارئ سيقول، إن ما جاء ذكره ما هو سوى جزء محدود من الحقيقة.
هذا واقع حقيقي إيجابي للغرب، ومؤلم للعالم العربي، ويجر إلى تساؤل عريض: لماذا يحجم القادة الغربيون عن تبذير أموال الشعب في اقتناء ممتلكات سرية، ووضع الأموال في حسابات سرية، بينما الذين قادتهم الظروف إلى الحكم في العالم العربي، تفننوا في البذخ واختلاس ونهب ممتلكات الشعب؟ لماذا جاء ذكر معظم الحكام العرب، منذ سنوات، في وثائق ويكليكس، والحسابات السرية في سويسرا كفاسدين، بينما لم يأتِ ذكر أي زعيم غربي؟ ولعل المفارقة أن ملفات الفساد التي تورط فيها مسؤولون غربيون كانت في علاقاتهم بمسؤولين عرب، ونشير إلى حالتين، جاء ذكر الملك الإسباني السابق أو «الملك الأب» كما يسمى الآن، خوان كارلوس في ملفات فساد مع العربية السعودية، حيث تلقى ما يفترض عمولة في قضية القطارات السريعة التي اقتنتها الرياض من إسبانيا. وجرى التحقيق القضائي الذي طرح شبهات حول الملك، لاسيما وأن بعض الأحزاب السياسية شددت إحالته إلى المحاكمة، ولم يتم الحصول على دلائل قوية للإدانة. ودفع هذا الملف رفقة ملفات أخرى الملك خوان كارلوس إلى التخلي عن العرش لصالح ابنه، إنقاذا للمؤسسة الملكية، لاسيما في ظل ارتفاع المنادين بالجمهورية.
واستفاد ابنه الملك الحالي فيلبي السادس من الدرس، ولم يعد يتدخل في أي وساطة مالية نهائيا، بل يرفض الهدايا الرفيعة الغالية من الملوك العرب، التي تبدو وكأنها عمولات، بسبب تجاوز المفهوم الرمزي للهدية، بل تخلص من أخرى. في هذا الصدد، تخلى الملك فيلبي السادس عن قصر «لمريتا» في جزر الكناري، الذي كان قد أهداه الملك الأردني حسين إلى الملكية الإسبانية سنة 1989، وأحاله إلى ممتلكات الدولة. كم تخلى لصالح الدولة عن عدد من السيارات الفاخرة، ومنها سيارتا فيراري من النوع الرفيع، أهدتها الإمارات للمؤسسة الملكية، وأرسى قواعد بعدم قبول الهدايا الفاخرة جدا. وفي الوقت ذاته، تجري محاكمة الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، بتهمة تلقي عمولات لتمويل حملته الانتخابية سنة 2007، وبالضبط من حاكم عربي وهو الليبي معمر القذافي، الذي جرفته رياح الربيع العربي. ويعد هذا الملف من الملفات الأكثر حساسية، لمسه الأمن القومي الفرنسي، ولهذا تلاحق الدولة العميقة ساركوزي، وللسبب نفسه، تلاحق الدولة العميقة بمفهومها الإيجابي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في ملف التورط الروسي المفترض وفضيحة أوكرانيا التي قد تكلفه الرئاسة.
إحجام القادة الغربيين عن ممارسة الفساد المالي يعود إلى عاملين، الأول يتجلى في التربية الديمقراطية، والثاني يتمثل في قوة المراقبة التي لا تعفي حتى الملوك من المحاسبة. وبالتالي، يتربى المسؤول الغربي، سواء كان ملكا أو رئيس دولة، على الإيمان بقداسة ممتلكات الأمة، وأنها ركن من الأركان الرئيسية التي تقوم عليها أي دولة مثلها مثل وحدة البلاد. وعلاقة بالعامل الثاني، أرست الدول الغربية آليات المراقبة الشديدة، التي تهدف إلى حماية الديمقراطية وحماية ممتلكات الشعب، بل الأمن القومي للبلاد، من تدخلات أجنبية. وإذا لاحظ موظف أو صحافي حدوث خرق بشأن قضايا وممتلكات الشعب، يرفع صوته منددا. وفي مناسبة سابقة، أكد لي دبلوماسي غربي أن المراقبة لا ترمي فقط إلى تعزيز البعد الأخلاقي والمعنوي على الممارسة السياسية، وثقة الشعب في المسؤولين، بل حماية الأمن القومي. وتابع موضحا «تخيل لو أن مسؤولا غربيا اقتنى سرا قصرا، أو فتح حسابا في دولة ثالثة وبالخصوص غير ديمقراطية، أو تلقى عمولات من ديكتاتور، سيصبح لا محالة رهينة الابتزاز السياسي، وبالتالي ستتضرر مصالح الشعب والبلاد». وشدد على حالة ساركوزي، وكيف تحول الأخير إلى شبه رهينة في يد القذافي، يدافع عنه في الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة لتبييض نظام ديكتاتوري، وتفاديا للفضيحة، استغل أول مناسبة وانخرط في الحرب ضد ليبيا لإسقاط هذا النظام وطمس الحقيقة «وعليك تأمل التبعات الآن».
كل هذا يغيب في العالم العربي بسبب قيام الأنظمة في معظمها على تراتبية الفساد، من أعلى السلم إلى أسفله، بسبب غياب الروح الوطنية والضمير الوطني الحق، حتى أصبحت بعض الأنظمة قريبة من نظام العصابات منها إلى دولة المؤسسات. ولنسأل القادة العرب: لماذا نظراؤكم الغربيون لا يفتحون حسابات في بنوك الدول التي تحكمونها، ولا يقتنون عقارات ولا يقدمون لكم هدايا بملايين اليورو، بينما أنتم تفعلون العكس؟