الخبير الشرقاوي: النخب الأمنية والسياسية في المغرب عاجزة على الابتكار وطغت “اطحن مو”

طغيان الحل الأمني للملفات المطلبية كما حدث في الريف

نشرت يومية أخبار اليوم حوارا مع الباحث في جيوبولتيك والخبير الأممي محمد الشرقاوي الذي يعمل ذلك أستاذا جامعيا  في الولايات المتحدة، ويتطرق الى قضايا دولية وبعض الملفات الوطنية. تنشر ألف بوست الأسئلة الخاصة بالملفات الوطنية، وفي أسفل الحوار رابطالحوار بالكامل في  أخبار اليوم الرقمي.

 

كيف تفسّر عدم دعوة المغرب إلى اجتماع برلين لبحث الأزمة الليبية؟ 

ثمّة أكثر من مفارقة من وراء تجاهل المغرب الذي استضاف اتّفاق الصخيرات، وهو أهم اتفاق سياسي وأعلى إنجاز دبلوماسي توصّلت إليه الأمم المتحدة بتأييد كل الأطراف الليبية والإقليمية والدولية منذ اندلاع الأزمة عام 2011.

وبالنّظر إلى تعثّر اجتماع موسكو الأسبوع الماضي وتواضع إنجازات اجتماع برلين الذي لم يحقّق أكثر من تعهد الدول المشاركة باحترام حظر تصدير الأسلحة إلى ليبيا، يظل اتفاق الصخيرات هو المرجعية الرئيسة لمسار جنيف المرتقب في مسار الأزمة.

ثانيا، لم يتم توجيه الدعوة إلى المغرب، وجاءت دعوة تونس متأخّرة قبل 24 ساعة من موعد الاجتماع: هما دولتان ساندتا اتفاق الصخيرات وتتمسّكان بالحل السياسي وليس العسكري للأزمة، مما يتعارض مع توجهات بعض الدول. في المقابل، حضرت إلى برلين دول مثل تركيا ومصر، والإمارات، وروسيا التي تقول عنها لجنة الخبراء التابعة للأمم المتحدة، والتي عملتُ فيها شخصيا، إنها تنتهك الحظر الدولي على تصدير الأسلحة إلى ليبيا.

ليس هذا المنطق المنشود من الدبلوماسية وفق توصيات الأمم المتحدة وميثاق حفظ السلم والأمن الدوليين، بل نتيجة لمنطق القوة والضغوط على مبعوث الأمم المتحدة ووزير الخارجية الألماني.

ثالثا، تميل الدبلوماسية المغربية في الغالب إلى أن تكون هادئة أو “مهذبة” أكثر من اللازم عملا بقاعدة “اللّبيب بالإشارة يفهم”. وهذا المنطلق للأسف لا ينفع مع دول تعتقد أنّ لها “وصاية سياسية” على الليبيين، مثل تركيا والإمارات ومصر.

كان ينبغي على الرباط منذ أشهر تبنّي منطلق استباقي pro-active، وليس التقوقع في مربع الانتظارية وردّ الفعل. كان من الأجدى الترويج لخطاب “اتفاق الصخيرات هو الحلّ”، في مواجهة مشاريع بعض الدول لفرض السيطرة على الغرب الليبي أو الإنزال العسكري لكسر شوكة الجنرال حفتر ودحر قواته نحو الشرق.

يا حبّذا لو استخدمت الرباط منذ أشهر كافة قنوات الاتصال مع مكتب المستشارة ميركل في برلين والأمين العام غوتيريس في نيويورك للتشديد على أن المغرب، كإحدى دول الجوار الإقليمي مع ليبيا، يريد مواصلة دوره الدبلوماسي في استكمال تطبيق مسار الصخيرات، وأن القضية الليبية قضية مغاربية بحكم الجغرافيا السياسية أكثر من أهمية استراتيجية المصالح الإماراتية أو التركية، أو غيرها من الدول التي تريد التحكم بواسطة “تيلي كومند” عن بعد في شؤون ليبيا.

 لماذا في رأيك حذرت سفارة الولايات المتحدة رعاياها بضرورة توخي الحذر بالمغرب، وتوقيف مناورات “أسد-البحر الإفريقي بين البحرية الملكية والمارينز؟

تأجيل أو إلغاء المناورات المشتركة المقررة سابقا ضرورة أمنية لا بدّ منها في مرحلة تؤرّق الدبلوماسيين والجنود الأمريكيين في الخارج، بسبب ارتفاع مستوى القلق والتحسب لديهم لأي تفجير أو عمل عدائي من إيران أو وكلائها عبر المنطقة وبقية العالم. ومن مضاعفات الأزمة أنها تساهم ضمنيا في تغليب نسق مكافحة الإرهاب والتنميط العدائي على فرص الدبلوماسي والحوار بين الحكومات.

أصبحنا أمام تنميط التفاعل بين الدول بما هو أمني في المقام الأول، وستتأثر العلاقات الاقتصادية وحرية التجارة ضمن هذه الانطوائيات على الذات. كانت السياسة الخارجية الأمريكية في العقود الخمسة الماضية تحدّد سياستها إزاء المغرب، وكلّ المغرب الكبير ضمن نسق تغلب عليه “مركزية” الشرق الأوسط، واعتبار الملك الراحل الحسن الثاني حليفا إقليميا رئيسا.

واليوم، تدخل الأزمة الإيرانية إلى عمق السياسة الأمريكية إزاء الشرق الأوسط والخليج. هناك احتمال أكيد أن تدور إدارة العلاقات الأمريكية المغربية والمغاربية إجمالا في فلك ما تنتجه دائرة المواجهة الإيرانية الأمريكية. لم يخرج الشأن المغربي والمغاربي من دائرة الشرق الأوسط في خطط الأمريكيين إلا ليدخل دائرة المعركة الكبرى: أمريكا وإيران! وهذه وصاية سلبية مفروضة بحكم الجغرافيا السياسية وتحديات السياسة الترامبية، بقدر ما تعكس تقوقع دول المغارب في وصاية لم تكن من اختيارها أساسا.

كيف تنظر إلى العلاقات المغربية الإيرانية دبلوماسيا؟

خلال العشرية الماضية عقب تولي الملك محمد السادس الحكم، تباينت خيارات الرباط في بلورة سياستها إزاء إيران بين ثلاث مدارس تفكير: 1) تطبيع العلاقة مع طهران بشكل عادي، 2) التعامل الحذر ودبلوماسية الاحتراس من مشروع إيران في المنطقة، أو 3) القطيعة الدبلوماسية، خاصة بالنظر إلى موقف طهران من قضية الصحراء، وما اعتبرته الرباط “معطيات ملموسة” عن دور حزب الله في ترتيب “مشروع تدريب” أفراد من جبهة البوليساريو، مما أدى إلى إغلاق السفارة الإيرانية في الرباط في 2018.

كان انتعاش التقارب المغربي الإيراني عام 2016 قصير النفس بعد قطيعة سبع سنوات. هي قطيعة بفعل تداعيات قضية الصحراء تنبني على قطيعة سابقة عندما وقع الشرخ الدبلوماسي بين الرباط وطهران في مارس 2009 بسبب مخاوف المغرب من انتشار التشيّع، أو ما اعتبره “تدخّلا في شؤونه الدينية”. يبدو أن خيار القطيعة مع طهران هو الغالب في حسابات المغرب، وأن شكلت الأزمة الراهنة بين واشنطن وطهران عنصرا إضافيا في تماسك خيار القطيعة الدبلوماسية تحت ثقل الوزن الاستراتيجي للحد من التشيع وتهديد موقف المغرب من قضية الصحراء.

هل الورقة المذهبية، أي وجود شيعة مغاربة، يمكن أن تلعبها إيران؟

هذا سؤال يستحضر عدة تقاطعات بين الجغرافيا الديمغرافية، ومكانة التقية في الفكر الشيعي، وقضية الولاء الأول بين “ولاية الفقيه” و”أمير المؤمنين”. تقديرات عدد المغاربة المتشيعين تتراوح بين 600 فرد، حسب بعض الأبحاث، و10000، حسب ما توصل إليه تقرير وزارة الخارجية الأمريكية بشأن الحريات الدينية في المغرب عام 2015. هناك، أيضا، متشيعو الجالية المغربية في الخارج، خاصة في بلجيكا، حيث تفيد بعض التقارير بمجموع 25000، متشيع بينهم في بروكسيل ومدن بلجيكية أخرى.

لكن الأهم هل للشيعة المغرب دور سياسي حتى يمكن الاستشعار بدور إيراني ضمني محتمل. ليست هناك مؤشرات عملية على هذا المنحى، باستثناء موقف “الاتحاد الشيعي المغربي” (الخط الرسالي بالمغرب) عام 2014 من تطورات الأزمة السورية، وكيف أدان مشروع التدخل الأمريكي في سوريا، والذي لم يتم إبان حكم باراك أوباما.

وشدد شيعة المغرب على أن مستقبل سوريا ينبغي أن يحدَّده السوريون وليس القوى الخارجية، وأن من شأن التدخل الأمريكي أن يقوي شوكة تنظيم “القاعدة” وزيادة العنف في الأراضي السورية. ليس دور شيعة المغرب محوريا لدى طهران في خدمة مشروع “الهلال الشيعي”، بغض النظر عما يعتبرونه تشيعا باطنيا.

ويحضر الهاجس من التشيع المغربي في ثنايا ما أصبح خطة أمنية دينية أو “الأمن الروحي” لغرس معتقدات المغاربة في المذهب السني بروافده المالكية، أملا في انحسار التشيع المغربي على الطريقة الإيرانية.

تموقع المغرب الجغرافي والثقافي والديني، هل يجعله في منأى عن اضطرابات الشرق؟

لم نعد في عصر القلاع عالية الأسوار أو حقبة السيادة الكاملة على الأرض والرعية. هذا قرن جديد دخلنا فيه مرحلة ما بعد العولمة التي طغت على العلاقات الدولية في الثمانينيات بحكم تعاظم دور الشركات متعددة الجنسيات والرأسمالية عابرة الحدود وتقدم سبل السفر وحرية الحركة بين القارات.

قد تتمسك الحكومات بأمن الحدود وسيادتها على مجالات حيوية في السياسات العامة سواء في المغرب أو الجزائر أو العراق أو إيران.

لكن من الناحية الواقعية ومنذ الانتفاضات الشعبية عام 2011، مرورا بما حدث ويحدث في السودان والجزائر ولبنان والعراق منذ العام الماضي، أصبحت المنطقة بين المحيط والخليج في بحر متلاطم الموجات وتجليات التنافس الإقليمي والدولي: هناك دول خليجية تحاول تكريس “وصاية سياسية” على المغرب الذي تعين عليه الحد منها في أزمتين متتاليتين مع السعودية والإمارات قبل أكثر من عام. وسيزداد ميول المغرب نحو الخروج من دائرة التقاطعات غير الاستراتيجية بالنسبة إليه، وإعادة النظر في تركيب علاقاته مع الشرق والغرب أيضا. سؤالك يعيدني إلى سؤال طرحته خلال مرحلة الدراسة في جامعة لندن في أواخر الثمانينيات: هل المغرب مغرب، والمشرق مشرق، فهل يلتقيان؟ باختصار، لن يلتقيا سياسيا ولا مذهبيا.

 وضع متأزّم دوليا وإقليميا (ليبيا وحراك الجزائر)، وتزايد المطالب الاجتماعية في المغرب وحملة انتقادات لوضعية حرية التعبير .. كيف ترى حال المغرب؟ وكيف تقيم تعامل السلطات المغربية في هذا السياق مع الوضع الداخلي؟

يعيش المغرب حقبة غير إيجابية في مجال الحرّيات العامة، بدأت بالتوجّس من حركات الاحتجاج عام 2011، وازدادت تشنّجا خلال مظاهرات الحسيمة وبقية تجلّيات حراك الريف. وتتقارب مؤشّرات مراكز الأبحاث والمنظمات غير الحكومية في أمريكا وأوروبا في تصنيف المغرب في مراتب متدنية منذ عام 2017.

في نظري، هناك عاملان رئيسان وراء هذا التردّي في مجال حقوق الإنسان: أوّلهما معضلة الاتّكال على النّسق الأمني، والإمعان في المتابعة القضائية، واستخدام “مطرقة القانون” في جلسات المحاكم. وللأسف، طغت على ملف حرية التعبير في السنوات الثلاث الماضية معادلةُ “اطحن مّو، اسجن مّو، قلّب مّها” في مسعى انفعالي، وليس عقلانيا، لاحتواء عدد من نشطاء المجتمع المدني وسط تزايد الحنق المتنامي من الأسفل إلى الأعلى بين المغاربة. مما يزيد في هذا التقوقع داخل مربّع النسق الأمني شعور بعض الجهات التي تعمل في الظل بأنّها تخوض “صراعا وجوديا” بدأ عام 2011 وعاد شبحه عام 2019. 

أما المعضلة الثانية، فتنمّ عن تراجع جلّي في القدرة على الابتكار السياسي لدى النخب الأمنية والسياسية، واستدامة بعض المفاهيم والإجراءات التي تبنتها الأجهزة في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وكأنها “صالحة” لكل زمان وكل مكان.

وقد يتفادى البعض القبول بمقارنة برغماتية مع تجارب دول أخرى تشهد مطالب شعبية مماثلة، ويجدون في سردية “الاستثناء المغربي”، أو “الخصوصية المغربية” تبريرا لعدم إدارة هذه المرحلة بمنطقات ومبادرات بديلة. بالنّظر إلى مصير النّخب السياسية والأمنية ومطالب الشارع في عدّة دول منها الجزائر وتونس ولبنان والعراق بين، تصاعد شعار المرحلة من “ارحل” عام 2011، إلى “الشعب يريد” عام 2019.

ويبدو أن نفسية الانتظار لإصلاح موعود طيلة ثماني سنوات وصلت حدّ الإحباط واليأس، فأصبح خطاب الاحتجاج يتجاوز ما كان يشكل parchoque أو عازل الصدمات بين الحنق الشعبي وفشل الدولة في تحقيق إصلاحات فعالة. وفي ثنايا خطاب الاحتجاج الشعبي، ارتفع مستوى تحديد المسؤولية في هرم الحكم. بمنطق التعامل مع حراك الريف كأحد النزاعات الاجتماعية الممتدةProtracted social conflicts، لا يبدو أن لدى الرباط سعة النفس وبرودة الأعصاب للقيام بمراجعة متريثة أو تأمل جدّي في ميزان الرأسمال السياسي الرّاهن بين الدولة والمجتمع، وبلورة رؤية متنورة لمصالحة وطنية جريئة. 

والشرق على عتبة أزمة جديدة، هل المغرب على أبواب انفراج سياسي  يقيه عدوى ما يحدث في المنطقة؟

بحكم الجغرافيا السياسية وتأثير الثّورة الرّقمية وتفاعل المجال العام بين المشرق والمغرب، ينبغي استحضار ثلاثية السياق والديناميات والمآل. إذ إن سياق الاحتجاج الشعبي ينطوي على سببية متشابهة مستمرة، وهي تراكم مطالب الإصلاح بتوفير وظائف جديدة، وتكافؤ الفرص، والقضاء على اقتصاد الريع أو منظومة “خدام الدولة”، وغيرها من دواعي الحياة الكريمة في بلد منصف وعادل إزاء مواطنيه سواء في دول المشرق أو المغرب. لكن ديناميات أو أساليب التعامل الرسمي مع حركات الاحتجاج المختلفة تتباين بين دولة وأخرى.

وليس من الحكمة أن يخرج المغرب وريث التنوير الرشدي الأندلسي عن المسار الراهن الذي تنفرد به تونس والجزائر، على خلاف دول المشرق كسوريا واليمن والسعودية ومصر، في إدارة معركة الإصلاح دون عنف أو إقصاء أو مغالاة في النسق الأمني الذي قد يمثل “حلا” على المدى القصير، لكنّه سيغدو نقمة على المدى الطويل.

كان للمغرب السبق في العدالة الانتقالية بتشكيل هيئة الإنصاف والمصالحة عام 2004، وأصبحت تجربة تونس تستقي دروسا وعبرا منها. 

أتساءل اليوم، لماذا تتردّد الرباط في تبنّي مشروع مصالحة ومواطنة متكافئة مع مغرب الريف، ومغرب المناطق المضطربة، ومغرب الشتات في هولندا وبلجيكا، وبقية مكونات المجتمع المغربي وإن اختلفت الرؤى السياسية والثقافية.

حراك الريف غيمة اجتماعية وسياسية لا ينبغي أن تخفي خلفها أفق السماء المنفتح على مغرب التعددية والمواطنة المتكافئة وتجاوز إنتاج سرديات عداء تجاوزتها المرحلة الراهنة. فمتى يكون المغرب في قلوب ريافة، ومتى ينفتح قلب الرباط على محبة أهالي الريف!

نص الحوار  في النسخة الرقمية لأخبار اليوم

Sign In

Reset Your Password