تشهد هذه السنة انتخابات تشريعية ورئاسية في عدد من الدول لكن الانتخابات الأمريكية تبقى الأبرز، ليس فقط بسبب وزن الولايات المتحدة بل نتيجة تساؤل الرأي العام الدولي: هل سيفوز الرئيس دونالد ترامب بولاية ثانية، أم ستصبح اليزابيث وارن أول رئيسة للولايات المتحدة بعد ما تأخر هذا البلد في اختيار امرأة لمنصب رئاسة البيت الأبيض؟ ولعل أبرز فوز حققته حتى الآن هي إعادة المفاهيم التقدمية رفقة المرشح بيرنيس ساندرس إلى النقاش العمومي في المشهد السياسي الأمريكي بعد ما كان ذلك طابو وكل من طرحه للنقاش يحكم على نفسه بالخسارة المسبقة.
ومن المفارقات التاريخية الكبرى، تعد الولايات المتحدة من أولى الدول التي راهنت على الديمقراطية في العالم، ولكن بقيت ديمقراطية ناقصة معنويا وماديا. فقد منعت بالعنف المؤسساتي الأمريكيين السود من التصويت، وهو حق جرى تحقيقه بعد فترة طويلة من المواجهات الدامية وبالضبط خلال الستينيات من القرن الماضي عندما وقع الرئيس الأمريكي جونسون على قرار يسمح لجميع السود بالتصويت بدون اجتياز اختبار الأمية، إذ كان 2 في المئة فقط من السود يصوتون في بداية الستينيات. وبقيت الديمقراطية الأمريكية ناقصة بسبب عدم تولي المرأة منصب رئيسة البلاد بل حتى منصب نائبة الرئيس بما في ذلك خلال القرن الواحد والعشرين. وحصل هذا في وقت نجحت المرأة في تولي رئاسة دول عديدة حديثة بالديمقراطية ومنها في أمريكا الجنوبية مثل حالة الأرجنتين مع ايستيلا بيرون سنة 1974 وليديا تخيدا في بوليفيا سنة 1979 وأساسا فيوليتا تشامورو في نيكاراغوا سنة 1990، لكن المنعطف الحقيقي كان ما بين 2010-2015 عندما تزامنت في رئاسة ثلاث دول كبرى في أمريكا الجنوبية ثلاث رئيسات وهن، كريستينا فيرنانديث في الأرجنتين وميشيل باشليت في التشيلي ثم ديلما روسيف في البرازيل ضمن أخريات.
وأول مرة فازت فيها المرأة للترشح باسم حزب من الحزبين الكبيرين الجمهوري والديمقراطي كانت هيلاري كلينتون عن الحزب الديمقراطي وانهزمت في الانتخابات المثيرة للجدل أمام مرشح لا يقل إثارة للجدل وهو دونالد ترامب الذي خلق المفاجأة للكثيرين بفوزه في الانتخابات التي جرت خلال 2016.
وسط كل هذه التطورات، تبرز المرشحة الديمقراطية وعضو مجلس الشيوخ عن ولاية ماشسوست الزابيث وارن التي قد تفوز بتمثيلية الحزب الديمقراطي في الانتخابات الداخلية وقد تصبح أول رئيسة للولايات المتحدة في حالة مواجهتها للرئيس دونالد ترامب. وتلعب عدة عوامل لصالحها وهي:
تستفيد اليزابيث وارن من الوضع الصحي للمرشح بيرني ساندرس، حيث لم يعد عامل السن يسمح له بالتنافس القوي بعد الأزمة القلبية التي تعرض لها خلال تشرين الأول/أكتوبر الماضي. وعلاوة على هذا، فهي لا تتردد في تبني مبادئ ساندرس التي تمزج بين الليبرالية المنفتحة ومبادئ الاشتراكية على الطريقة الأوروبية، خاصة بعد ما لم تعد كلمة الاشتراكية تثير قلق الناخب الأمريكي عكس ما كان يحدث في الماضي. ومما يجعل حظوظها ترتفع أن ساندرس له مواقف قوية تقدميا كسرت تابو السياسيين بشأن تبني أفكار اليسار واكتسب الكثير من الأنصار، أما الزلبيث وارن القادمة من جامعة هارفارد الشهيرة فهي تبني وسط الشباب والمثقفين حركة تقدمية صلبة وسط الحزب الديمقراطي ووسط الرأي العام الأمريكي.
في الوقت ذاته، بدأت تقترب في استطلاعات الرأي مجددا من المرشح الآخر القوي جو بايدن الذي شغل منصب نائب الرئيس مع باراك أوباما، فهو من جهة يمثل جيلا قديما لم يعد يقنع الشباب الأمريكيين ومن جهة أخرى، بدأ ملف نجله هانتر بسبب الفساد في أوكرانيا يضعفه، وهو الملف الذي يحاكم مجلس الشيوخ ترامب بسبب مطالبته رئيس أوكرانيا تعميق البحث مع نجل بايدن لضرب حظوظ المرشح الديمقراطي. وكلما ضغط الحزب الديمقراطي أكثر في ملف أوكرانيا لضرب ترامب، فهو يضر كذلك مصداقية المرشح جو بايدن. وتصبح استطلاعات الرأي ذات وزن عندما تبدأ الانتخابات الداخلية للحزب، فقد كان ترامب متأخرا في استطلاعات الرأي سنة 2015 وبداية 2016 ولكنه فاز في الانتخابات الرئاسية على حساب هيلاري كلينتون.
في الوقت ذاته، وأمام الفوارق الاجتماعية التي بدأت تحفر شرخا كبيرا في الولايات المتحدة، تطرح هذه السيناتورة تعميم الصحة على الجميع كحق من حقوق المواطنين لاسيما في دولة تعتبر الأغنى في العالم. كما ترغب في إعفاء الطلبة من الديون أو التخفيف منها حتى لا يبقون طيلة الحياة عبيد القروض المتتالية، الصحة والدراسة ثم العقار الذي يقتنونه. وهذه المقترحات ستجلب لها أصوات الشباب والطبقة المتوسطة.
وعلاقة بهذا أو ما يجعلها تواجه ترامب وتشكل خطرا عليه، تراجعت البطالة في الولايات المتحدة وتقدم النمو الاقتصادي لكن هذا لم ينعكس على أجور المواطنين الأمريكيين التي لم ترتفع إلا بالكاد. ويستفيد الأغنياء والشركات من الازدهار الاقتصادي. في الوقت نفسه، عادت الولايات المتحدة لتعيش توترا اجتماعيا بسبب إنعاش ترامب للميز العنصري بميولاته بتفوق البيض على السود والعمل على تهميش اللاتينيين.
ويوجد إعجاب وسط الأمريكيين بتصورها السياسي حول فرض الضريبة على الأغنياء ومنع الشركات الكبرى من السيطرة على المجتمع. وتستهدف أساسا كل من أمازون وفيسبوك وغوغل، وهو مقترح يلقى الترحيب من طرف الكثير من الشباب الأمريكي، لكن معارضة قوية من بارونات تكنولوجيا الاتصال الذين يهددون بمعارضتها.
وبشكل صامت وذكي، تعتبر أكثر تطرفا من الرئيس دونالد ترامب في مواجهة الصين حتى لا يصبح هذا البلد القوة العالمية الأولى على حساب الولايات المتحدة، وهو موضوع يشغل الأمريكيين. وبهذا، تلتقي مع مخاوف الدولة العميقة وخاصة المؤسسة العسكرية التي ترغب في حصار الصين حتى لا تصبح القوى الأولى عالميا.
وكتبت مجلة “ذي نايشن” عنها مؤخرا أن اليزابيث وارن تريد رسم خط واضح بين المواقف المعتدلة لمرشحين مثل بايدن ومواقفها القائمة على الأفكار التقدمية أي اليسار الليبرالي، لأن مواجهة الرئيس ترامب تتطلب وضوحا في المواقف تكون نقيض ما يدافع عنه الرئيس الحالي. وهذا ما يجعل القاعدة الجديدة للشباب تراهن عليها وعلى ساندرس، هذه الفئة التي ترى أن الحسم في اختيار رئيس الولايات المتحدة لا يجب أن يكون من نصيب الأغنياء.
ومنذ بروز نجمها بقوة خلال الثلاثة أشهر الأخيرة خاصة في استطلاعات الرأي، بدأ التشكيك في فوز ثان لترامب، ولم تعد حظوظه صلبة في هذا الشأن مثلما كانت عليه حتى شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي بعدما بدأ الرأي العام الأمريكي يلمس مخاطر ترامب على الحياة السياسية خاصة على المدى المتوسط والبعيد. وكتبت “نيويورك تايمز” الأحد الماضي افتتاحية تؤيد اليزابيث وارن رفقة مرشحة أخرى وهي آمي كلوبوشار كمرشحتين في الانتخابات الداخلية للحزب الديمقراطي التي ستبدأ بداية يوم 3 شباط/فبراير المقبل. واعتبرت “نيويورك تايمز” أن اليزابيث وارن تحمل رؤية جادة حول مستقبل الولايات المتحدة.
نعم، قد تشهد الولايات المتحدة، الديمقراطية القديمة، اختيار أول رئيسة للبلاد سنة 2020 اليزابيث وارن، وبهذا ستلتحق بديمقراطيات حديثة سبقتها في تحقيق هذا الهدف.