نص المحاضرة التي ألقاها عبد الله العروي في المكتبة الوطنية يوم 3 ديسمبر حول المواطنة، وتضمنت انتقادات قوية لمفهوم المواطنة الذي يتبناه المخزن المغربي ومنها مظاهر الولاء. ويقول:
اخترت لهذه المحاضرة عنوان «المواطنة والمساهمة والمجاورة». وسأحاول أن أبين الفرق بين هذه المفاهيم الثلاثة.
في الاستعمال الحالي، لفظة «مواطن» ترادف الكلمة الفرنسية citoyen أو الإنجليزية citizen. لكن المعنى الاشتقاقي مختلف. ولهذا دلالة يجدر بنا أن نقف قليلا عندها. في اللغة العربية، الوطن رقعة أرضية واضح المعالم، مواطنها- أو مستوطنها- ساكنها. والمواطن من يقاسم هذا القاطن الوطن نفسه.
أما لفظ citoyen، وكذلك لفظ citizen، فمشتقان من لفظ cité؛ أي مدينة بالمعنى السياسي. يقول روسو إن الفرنسيين -في زمنه- لا يعرفون معنى كلمة citoyen، ولا يفرقون بينها وبين كلمة «بورجوا» (bourgeois). الأولى تطلق على المساهم في الحياة السياسية، فيما تصف الثانية حالة المقيم في المدينة، أي المواطن بالمعنى الاشتقاقي العربي للكلمة.
وهنا، وجب التنبيه إلى مفارقة. يقال عادة إن العربي بدوي رحال، وإن الحضري مستقر في مكان واحد. لكن كلمة «وطن» تشير إلى الأرض/القارة. في حين أن كلمة citoyen تعني صفة قانونية مرتبطة بالإنسان، إن حلّ أو ارتحل. في استعمالنا اليومي، نضمن لفظ «مواطن» معنى citoyen، دون التفات إلى ما يوحي به الاشتقاق. فمن الطبيعي أن ينشأ قدر ما من الغموض، كما سنوضح ذلك بعد قليل.
لذلك، قلت، في مناسبات عدة، إنه لا يستقيم منهجيا أن ننطلق من الاشتقاق فقط، كما يفعل كثيرون. بالعكس، يجب الانطلاق من الوضع الذي يحتم استعمال هذه الكلمة أو تلك. يجب التحويم حول الموضوع من عدة مراقب، حتى يتبين المقصود من استعمال هذه الكلمة، وليس غيرها. لا نفع البتة دون الانطلاق من المقابلة بين مفهوم ناشئ، دخيل للمواطنة، ومفهوم أصيل، أعني الولاء، ثم استحسان الأول، واستبشاع الثاني. هذه الطريقة المغالية في التبسيط لا تزيد الأمور إلا استشكالا.
يشاهد بعضنا، على الشاشة، نقل حفل الولاء. فيقول: هؤلاء المبايعون موالٍ، وليسوا مواطنين. هذا الشعور هو الذي يجب أن ننطلق منه، بحثا عن ظروف نشأته. هل هو طبيعي؟ نعم، بدون أدنى شك. توجد جماعات كثيرة تجربه يوميا. كل عضو في هذه الجماعات يشعر بأنه آفاقي، خارج السرب، أنه مساكن، مجاور، غير مشارك، غير مساهم، لا يتمتع بحقوق، يتمتع بها غيره، الذي يحتل مكانة أعلى من مكانته. يجد أن وضعه ناقص، محتاج إلى تزكية، حتى يتخيل واقعا مناقضا للواقع الذي يعيشه. يحاول أن يكيف، فيعثر على كلمة «مواطنة» بمعناها المستحدث. يتيقن أنها حق لكل إنسان بما هو إنسان. لو لم يجد هذه الكلمة جاهزة، لاستعار لفظة أجنبية، كما استعار من قبل لفظة «ديمقراطية» ولفظة «برلمان».
الحاصل هو أن المرء لا يستعير الكلمة، بقدر ما يستحضر المفهوم المعبر عن وضع ما، ناشئ بدوره عن تجربة أليمة.
والتجربة التي نتكلم عنها لازمة للمفهوم الذي نبحث فيه. ونستدل على ذلك ببعض المقالات التاريخية. نبدأ باليونان. يقول أرسطو في نص مشهور: المواطن هو المساهم في إقرار القوانين. ومن مجموع هؤلاء المساهمين تتكون المدينة cité، أي الهيئة السياسية. والتعريف ذاته نجده عند سبينوزا.
يقول روسو، الذي يفتخر بأنه مواطن بجنيف، إن جان بودان، مؤسس نظرية السيادة، وهو فرنسي، لم يعرف الفرق بين المواطن citoyen والمساكن، وأن دلاومبير وحده أدرك الفرق في المقال الذي خصصه لمدينة جنيف، والذي قسم فيه سكان المدينة إلى أربع طبقات، قليل منهم فقط يساهمون في الحياة السياسة، ويعتبرون إذن مواطنين.
نصل إلى التجربة الأساسية، أعني تجربة إنجلترا.
نشأ المجتمع الإنجليزي الحديث عن الغزو، حيث ظلت آثار التمييز بين الغالب والمغلوب بادية في الحياة العامة لعدة قرون، كما تدل على ذلك روايات والتر سكوت، واهتمام منظري السياسة، مثل توماس هوبز وجون لوك، بمسألة الغزو، وما يترتب عليه من حقوق.
الحقوق المسطرة في المواثيق الإنجليزية، ابتداء من الوثيقة الكبرى لسنة 1215، هي امتيازات أبناء الغزاة المنتزعة بالقوة من الملك، الذي هو واحد منهم، ويحاول باستمرار الانفراد بالسلطة. التاريخ الدستوري الإنجليزي هو تاريخ تثبيت هذه الحقوق وتمتيع جماعات جديدة بها، إما عبر ثورة دموية، مثل ثورة القرن السابع عشر التي عارضها هوبز ونظر لها لوك، وإما عبر تطور سلمي أثناء القرنين التاليين.
لهذا السبب، لا نجد تعارضا، كما سيحدث فيما بعد، بين كلمتي citizen وsubject، لأن حقوق الفرد مضمونة في وثيقة تنص على سلطة قضائية مستقلة تحد من سلطة الملك. وبما أن الحق يخص شخصا بعينه، لا توجد علاقة بينية بين الحرية والمساواة، كما هو الحال عند روسو وأتباعه.
عند المنظرين الإنجليز، نجد إما مساواة بلا حرية، كما عند هوبز، وإما حرية بلا مساواة، عند لوك. ابتداء من القرن الثامن عشر، تمازجت طبقة النبلاء وطبقة أثرياء التجار. تحولت الطبقة الحاكمة من طبقة أرستقراطية إلى بلوتوقراطية، فأصبح أعضاؤها يتمتعون تلقائيا بالحقوق التي كانت مقصورة على النبلاء. ثم تكاثرت طبقة العامة ونظمت صفوفها، وطالبت بالحقوق ذاتها، ونالت تدريجيا ما أرادت. ألغي الرق. اكتسبت المرأة بعض حقوقها. تحسنت وضعية الفقراء. وأصبحت لكل فرد حقوق مضمونة في إيثار ولاء الجميع للعرش.
وجدنا أمام تطور تاريخي، وليس أمام تحليل نظري مسحوب على واقع غريب، كما حصل في فرنسا أيام الثورة الكبرى. تطور يعني الانطلاق من وضع معين يمثل مجموعة من الحقوق منتزعة من الملك، وممنوحة لطبقة محددة مكونة من ورثة الغزاة، ثم رصد تعميم تلك الحقوق في ثورات لاحقة على السكان الساكسونيين الأصليين، دون الكلتيين والولش والسكوتس، فبالأحرى دون اليهود.
لما حدث الإصلاح الديني، انقسم المجتمع الإنجليزي إلى أنجليكان وكاثوليك، قبل أن تبرز طبقة البوليتان، أي الغلاة. عندما انتهت ثورة القرن السابع، وعاد النظام الملكي، أقصي الغلاة من المجال السياسي، وصاروا في منزلة الكاثوليك كاليهود. لا تقبل شهادتهم في المحاكم. لا يدرسون في الجامعات العريقة. لا يتقلدون مناصب قيادية في الجيش أو الإدارة. بالطبع، هذا الوضع الذي دام إلى أواسط القرن التاسع عشر، شبيه تماما بوضع الذمة في البلدان الإسلامية.
وهنا، نرى بوضوح ارتباط المواطنة بالولاء. الأنجليكاني كامل المواطنة، لأنه مؤتمن، في حين أن غيره متهم في ولائه للعرش وللدولة. وهذه هي النقطة التي سيركز عليها فيما بعد المدافعون عن حق الكاثوليك، كالوزير الأول غلادستون، ثم حق اليهود كاللورد ماكويل، في التمتع بالمواطنة الكاملة.
سيقولون إن اختلاف العقيدة لا يتنافى مع صحة الولاء السياسي. فلم يصادق البرلمان الإنجليزي على إعطاء اليهود حقوقهم، بعد أن أعطى الكاثوليك حقوقهم السياسية من قبل، إلا سنة 1958، بمعنى أنه لما جاء إلى المغرب لورد إنجليزي وطالب السلطان محمد الرابع سنة 1864 بأن يعطي اليهود المغاربة الحقوق نفسها، كان يتكلم عن حق لم يلبّ في إنجلترا إلا قبل ست سنوات.
نستخلص من هذا العرض أن الوضع الذي كان قائما في إنجلترا مهد النظام الدستوري الحديث، كان يتصف بوجود نوعين من الحقوق: حقوق عامة يتمتع بها كل مقيم، أي كل مجاور، أو مواطن حسب تعبيرنا، نسميها حقوقا إنسانية؛ وحقوق خاصة بفئة صغيرة، وهي الحقوق المعروفة بالحقوق السياسية أو المدنية. وهذه الحقوق المدنية لا تعارض الولاء، بقدر ما تستدعيه.
تكلمنا عن الحالة الإنجليزية، لأنها نموذجية في العالم. ما قلناه عن الكاثوليك والبوليتان الغلاة في إنجلترا، نقوله عن الهنود والزنوج والآسيويين في أمريكا، رغم أن الدستور الأمريكي يؤكد أن الآدمي يولد حرا ومساويا لأي آدمي آخر.
لا أحد يعيش في عزلة تامة. قد ينعزل المرء، لكن بعد أن يكون قد عاش فترة من الزمن، قصيرة أو طويلة، بين مجموعة بشرية: أسرة، قبيلة، مدينة. وفي كل حال، يوجد تمييز بين وضع الأصيل ووضع الطارئ، وابن الدار المساهم في المدينة والمجاور أو المعاهد الذي قد يكون مملوكا أو مولى أو معاهدا ذميا أو ضيفا عابرا، بل عدوا مهادنا. هل لنا أن نقول إن هذه هي حقوق الإنسان، كما تفهم اليوم، وتلك هي الحقوق المدنية؟
هذا ما توحي به، لأول وهلة، وثيقة حقوق الإنسان والمواطن، التي صادق عليها المجلس التأسيسي الفرنسي سنة 1789.
تتعلق الحقوق الإنسانية بالنفس والمال والعرض، وتتعلق الحقوق المدنية بالأنشطة الجماعية كالتصويت والترشح وتقلد مناصب قيادية. لكن عندما نتمعن في الوثيقة المذكورة، وما سبقها من وثائق إنجليزية وأمريكية، نرى أن الأمر ليس كذلك. هل يجب الكلام عن الإنسان أولا، ثم عن المواطن؟ لا تتكلم الوثيقة عن شخصيتين منفصلتين، عن الوافد أولا، ثم عن ابن البلد ثانيا.
نتكلم عن شخصية واحدة موصوفة من وجهين. ما تعنيه الوثيقة الفرنسية في الواقع هو أن الحقوق المسجلة تهم كلها المواطن المساهم (citoyen)، ليس المواطن المجاور، وتؤكد في الوقت نفسه أن الحقوق متأصلة في طبيعة الإنسان، أي إنسان، غير الناشئة عن ائتلاف أو تنازل. هي إذن حقوق الإنسان، الذي هو مواطن. هذا عكس ما تقوله الوثائق الإنجليزية التي تعدد الحقوق المنزوعة من يد الملك، والخاصة بمجموعات محددة: رجال الدين، المزارعين الأحرار، الخ. كل فئة تعتقد أن حقوقها معتبرة من طرف كل فئة على حدة، عكس ما يوحي به ظاهر العبارة.
الحقوق المضمنة في الوثيقة الفرنسية، والأمريكية كذلك، تخص المواطن، لا غير. أما حقوق المجاور، وهي حقوق إنسانية بالفعل، فهي متولدة عن معاهدة مبرمة بين هيئتين سياسيتين. ونذكر بالمناسبة أن عبارة «الإنسان المواطن» صدرت أول مرة عن الألماني صامويل بوفندورف، أحد مؤسسي القانون الدولي.
بعد الحرب العالمية الثانية، حصل تطور -حتى لا نقول قطيعة- في هذا المجال. لا يمكن اعتبار وثيقة سنة 1948، الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة، مجرد تعميم لما تضمنته وثائق سابقة. الجديد فيها أنها تتجاهل ضمنيا سيادة الدولة الوطنية.
هناك حقوق سياسية كانت محصورة في الوثائق السابقة على أبناء الوطن، وعمم بعضها على كل المواطنين، أو المجاورين، ثم حقوق اقتصادية واجتماعية، كالشغل والتعليم والعناية الصحية والرعاية، ثم حقوق خاصة بفئات مهملة كالنساء والأطفال والمعاقين والعجزة، ثم حقوق ثقافية تهم الأقليات والشعوب الأصيلة. كل مرة تضاف إلى قائمة أصحاب الحقوق جماعة جديدة، وإلى قائمة الحقوق حقوق جديدة، وذلك باسم الاشتراك في الإنسانية، بل وفي الحيوانية.
حصل التوسيع بكيفية آلية، دون تنظيم مسبق. لذلك نلاحظ هذه الأيام معارضة قوية، حتى في البلاد الديمقراطية، ضد هذا الاستخفاف المتزايد بالسيادة الوطنية. كان التركيز في الوثائق السابقة على شرعية الثورة ضد الظلم، أي تجاهل حقوق المواطنة. الآن نرى توجها نحو تبرير الثورة على الدولة الوطنية غير الإنسانية، حتى ولو كانت عادلة، خاضعة لقوانين صارمة، لكنها مقصورة على أبناء الوطن.
هناك، إذن، تطور جديد، يخلق مشاكل كثيرة لمفهوم المواطنة. إذ لم تعد المواطنة مرتبطة بوطن، بدولة وطنية، بل الاتجاه هو ربطها بالمجموعات الإنسانية. هذه النقطة تنبه إليها، ونبه إليها، الفيلسوف «كانت» أيام الثورة الفرنسية (عندما نقول إن «كانت فيلسوف كبير»، لماذا فيلسوف كبير؟ لأنه أيام الثورة الفرنسية وإعلان حقوق الإنسان، رأى أن هذا الإعلان يتجاوز حدود الدولة الوطنية، مع أنها كانت في بدايتها. ولهذا بالضبط ترون أن هناك اعتمادا كبيرا على تحليلات كانت في كل الأدبيات المتعلقة بالقانون أو بالمواطنة أو بحقوق الإنسان، الخ.)
كان مثلا حق التنقل والإقامة والشغل والحماية محصورا في حدود الوطن، لأن الحرية كانت مغيبة. كان الإنسان لا يستطيع التنقل من بلد إلى آخر بحرية.
اليوم ما نلاحظه هو أن التوسيع لكل إنسان إنسان، والاعتراف لكل فرد، أينما حل، بأن يتصرف كجميع مواطني العالم. والرفض لهذا التوسيع- مهما يكن حكمنا عليه أخلاقيا- يدل على أن هذا التطور المفهومي، مفهوم الإنسان المواطن، لم يُأصَّل بعد تأصيلا واضحا وصريحا؛ أي لا أحد يقول إن هذا التوسيع لحق من حقوق المواطن المساهم إلى المواطن المجاور يتحدى حدود الدولة الوطنية.
لا أحد يقولها صراحة، مع أن هذا الأمر موجود ضمنيا في لائحة الحقوق الدولية. والدليل على ذلك أن إعلان الحقوق الإنسانية للدول الأوربية، أي اعتبار أن كل مواطن، من أي دولة كانت، إذا انتقل من دولة إلى أخرى، تكون له الحقوق نفسها. هذا الإعلان، مع أنه هو الأساس في بناء المنظومة الأوربية، يرفضه عدد لا يستهان به من القادة السياسيين. لا يقولونها صراحة، ولكنهم يتخذون مواقف ويطالبون بكثير من المطالب في هذا الاتجاه.
الآن، بعد هذا الكلام عن المواطنة وحقوق الإنسان، نعود إلى ما كنا بصدده، أي المواطنة في إطار الدولة الوطنية.
يقول أحدنا: لا أرضى لنفسي أقل من أن أكون مواطنا كامل المواطنة، دون أن يعي أن النظرية، التي يستند إليها، تلغيه مسبقا من المجال السياسي. النظرية، من أرسطو إلى كانت وهيغل، مرورا بروسو، لا تهتم إلا بفرض من له مؤهلات محددة، وهي: أن يكون ذكرا لا أنثى، حرا لا مملوكا، عاقلا لا معتوها، راشدا لا قاصرا، فاضلا لا دنيئا، تقيا لا فاجرا، أمينا لا خائنا. من يتحلى بهذه الصفات، فينعت بالشيخ sénateur أو الأب، أو السيد، هو الفرد المؤسس الذي يملك سهما في الشركة التي تسمى الدولة الوطنية. كل هؤلاء المنظرين، بالخصوص المنظرون الإنجليز، نظروا إلى الدولة على أنها شركة تجارية.
بعضهم يستعمل في الغالب stock-holder، صاحب سهم، مساهم. هنا نتكلم عن مفهوم المساهمة. إذن، الفرد المؤسس الذي يملك سهما في الشركة، التي تسمى الدولة الوطنية، هذا هو المواطن المساهم. حقوقه هي مؤهلاته. متى فصلت الحقوق عن المؤهلات، فقدت النظرية تماسكها.
أبرز مثال على النظرية السوية المتماسكة نجده في كتاب جان جاك روسو «العقد الاجتماعي». يضع المؤلف نصب عينيه ذلك الفرد الحر، المستقل عن كل ما حوله، ويستدمج المفهوم كل مستتبعاته بطريقة منطقية على شاكلة سبينوزا الرياضية. يتقدم من معادلة إلى أخرى، دون أدنى ميل أو زيغ. من فكرة التجمع يستخرج روسو مفهوم الجمهورية، ومنه الديمقراطية، ثم الأمة، ثم الدولة، ثم الإرادة العامة، ثم إرادة الفرد العاقل، ثم المصلحة، ثم القانون، الخ.
كل مفهوم ينعكس في الذي يليه انعكاسا جامعا مانعا، يكشف وجها من أوجه عدة تخص كلها الموضوع، أي الفرد الحر، العاقل، الفاضل، الخ، إلى أن يقف على الأس، أس الأس، وهو وعي الفرد بذاته، بحريته وسلطته المطلقة على نفسه. من لم يعِ هذا الكشف -إذ يتعلق بكشف فعلي- من لم يع هذه الحقيقة الجوهرية، من لم يستشعرها في سر سره، فهو غير معني بكلام روسو. هذه التجربة النظرية يعيشها كل فرد فرد. لا تعارض، إذن، في هذا التحليل بين الحرية والمساواة.
والضامن لهذه وتلك العقل القاهر لكل شهوة مضرة، الهادي إلى العفة والفضيلة. كل ناقص عقل لعدم اكتمال كالطفل، أو بسبب وضع عرفي كالمرأة، أو قانون كالمملوك، أو طارئ كالمعتوه أو الشيخ الهرم، أو اعوجاج في الفكر كالزائغ، أو عجز عن العبارة كالأعجم، فهذا لا يدركه نظر روسو. وبصدد وعي الإنسان بطبيعته، نشدد على نقطة مهمة: طبيعة الإنسان عند روسو هي السر والآية، ختم الخالق على وجدان البشر، كما أوضح ذلك في عقيدته. كل التناقضات التي نبه عليها المحللون، تعود إلى هذا التوحيد الذي يجمع روسو بسبينوزا وهيغل. عند هؤلاء المفكرين الثلاثة، لا تعارض بين الروح والمادة، لا ثنائية، ولا تعالٍ.
كل الصفات المنسوبة إلى الباري يضيفها روسو للإنسان، منشئ المدينة، أي المؤسسة السياسية. انظروا، مثلا، إلى قوله في الإرادة العامة، كونها لا تفوض، لا تتجزأ -في الكلام القديم يقال إنه لا تتبعض- لا تخطئ، لا تتعارض مع الإرادة الفردية. هذه هي الأصول النظرية لمفهوم المواطن، أن العضو المؤسس لهيئة سياسية هي المدينة (polis، res publica).
المواطن المساهم سيد نفسه يحكم نفسه بنفسه بواسطة إرادة جماعية، سلطة ناموس موافقة، طوعا وحكما لإرادة الفرد. وهذا لأنه عاقل، كابح لنزوات نفسه، مستقيم في سلوكه، غير زائغ. هو المشرع. هو المتصرف. هو الحكم. وهو في عين المنظر الإنسان الطبيعي، أي قبل أن يفسده التاريخ، حسب عبارة روسو. لكن هذا الإنسان يبدو لنا نحن غير طبيعي، مناقضا تماما، لم نجربه يوميا في تصرفنا وتصرف غيرنا. من يشرع؟ من يقضي؟ بالتأكيد، ليس الإنسان المستقيم، التقي، الفاضل.
هناك، إذن، الإنسان المجرد من كل صفة ملموسة. وهناك الإنسان الذي يسير في الأسواق. ولا أحد من المنظرين ادعى ألا فرق بين الاثنين. حتى روسو أكثرهم غلوا في التجريد، يحلق طويلا في سماء المثل، ثم يعود إلى الواقع، ليتساءل مع مونتيسكيو عن أي نظام أصلح لأي شعب في محيطه الجغرافي، وبمعطياته التاريخية والثقافية والعقائدية.
عندئذ، يتضح لنا في البحث في الأصول من له حق التشريع، من له حق الإمارة، من له حق فض النزاعات، إنما هو بهدف ردّ ادعاء: أصحاب النفوذ من رجال الدين والنبلاء والمستبدين بالسلطة، أي كل من يعتقد أن تحكمه في غيره أمر طبيعي.
التحليل النظري الجذري هو تمهيد وتأصيل لإرادة التغيير. من يحبذ التغيير، وأحيانا يستبطئه، لا يعيب على التحليل المذكور إفراطه في التجريد. إذ الغرض منه بالضبط هو تنقيح الذهن من كل الأفكار الموروثة. وأما من يفضل الاستقرار والمحافظة على ما هو قائم، ولو مقابل إصلاحات، كأنه يستبشع الفرضية الأساس، أي كون الفرد سيد نفسه، فعّال لما يريد.
هذا الفرد الواعي بذاته، العاقل، الكابح لنزوات نفسه، المستقل عن غيره، المتعاقد مع نفسه، أليس غافلا عن واقعه، متنكرا لحقيقته؟ قبل أن يتعاقد مع نفسه، أو لم يتعاقد مع خالقه؟ هذا المعارض لتحليل روسو، ولأفكار القرن الثامن عشر، يجدها عند المتدين، المسلم وغير المسلم، عند الشرقي والغربي. نجدها عن مفكر كالمودودي، ونجدها عند المعارض للثورة الفرنسية كالمفكر لوي بونات.
هكذا نرى كيف يمكن تقويض تحليل روسو، وبالتالي مفهوم المواطنة الكاملة، من الأساس دون العودة إلى وضع يتصف بالحجر والعبودية. هذه هي النقطة، أي أن نقوض الأسس المنطقية والمعرفية لتحليلات القرن الثامن عشر، خاصة تحليلات روسو، دون العودة إلى فكر وسطوي.
يقول المعارض- أي كان: الإنسان حر، ولكن بعد عتق، الإنسان مخلق، ولكن بتكليف، الإنسان صاحب عقل، ولكن عن منة. لاحظنا أن روسو قلب المفاهيم الثيولوجية إلى سياسية. ونرى هنا أن خصومه يكتفون بقلب مضاد، أي بربط حقوق سياسية بمجال غير سياسي.
واضح مما سبق أن مفهوم المواطنة التامة الكاملة، المضمن في الوثائق الأمريكية والفرنسية، التي صدرت أواخر القرن الثامن عشر، يتجاوب مع تحليل روسو. أما الوثائق الإنجليزية، التي تتابعت من القرن الثاني عشر إلى القرن السابع عشر، فإنها تعتمد مبادئ مخالفة، كما أوضحنا ذلك. في الأولى حياد روسو وتلامذته. نلاحظ تناقضا بين المواطنة والولاء. وهو تناقض لا وجود له في الثانية.
يُعنون طوماس هوبز مؤلفه الشهير «في المواطن». هذا عنوان كتاب، مع أن المضمون هو تبرير الاستبداد الملكي.
تمزج وثائق الأمم المتحدة بين تحليلين، النظري الميتافيزي والقانوني التاريخي. هل يجوز اعتماد هذا المفهوم بكل خلفياته المعرفية للحكم على الحالة التي نعيشها اليوم في وطننا؟ هذا هو السؤال المطروح علينا من أمد.
أنصار الخصوصية، أي الأصالة الثقافية، يردون بـ «لا». حينئذ نقول، في هذه الحالة، ما هو الحل؟ أنصار العولمة، على الأقل في هذا الموضوع، يجيبون بـ «نعم». حينئذ نقول: بما أن الفروق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية تظل قائمة- لا أحد يقول إن المجتمع المغربي هو المجتمع الفنلندي- فكيف نكيّف التحليل حتى يصبح موافقا للحال؟ نتصور انتقال المغربي من موالٍ إلى مواطن، مع اعتبار الفارق الثقافي.
قبل متابعة النقاش، يجدر بنا هنا أن نذكر بأمرين: أولا، لماذا شرط في مؤسس المدينة الإلهام؟ (في فصل بعنوان «المشرع»، شرط الإلهام.) ثانيا، لماذا ضمّ إلى كتاب «العقد الاجتماعي»، بعد تردد، فصلا عن الدين المدني؟ في هاتين النقطتين يتستر العائق المعرفي الذي ألمحنا إليه.
يقال عادة إن العائق ديني. لكن ما هو؟ ومن أي نوع هو؟ هل هو دين مدني؟ أم دين منزل؟ لم يلغ روسو العامل الديني، بقدر ما قلبه رأسا على عقب. أبدل الوازع الخارجي بآخر داخلي. وما لمح إليه هو جهر به أتباعه: كانط، وهيغل، وفيورباخ. عنذئد، لم يعد النقاش في هذا المستوى يدور حول ماهية الإنسان وحقوقه، بل حول أصل الأصول؛ أي مرجعية هذه الحقوق.
يقول الخصم إن الإنسان حر ومستقل عن غيره. يرد الخصم: ممن؟ يجيب روسو: عن أخيه الإنسان. يرد الخصم: صحيح، إذ لا سلطان لمخلوق على مخلوق. والسلطة، كل السلطة، هي للخالق وحده. لا ضمان لحرية الإنسان، دون الاعتراف بربوبية الخالق. يقول روسو: لا فرق بين بني البشر. يرد الخصم: نعم، لا أدل على المساواة من الشعائر الأربعة: الصوم، الصلاة، الطواف، والزكاة. هذه الشعائر الأربع هدفها هو تشخيص المساواة (عندما أقول الخصم، فإنني أقصد خصم أفكار روسو، خصم تحليلات القرن الثامن عشر، خصم المفهوم الإشكالي للمواطن المساهم.)
حسب الخصم، لا مسوغ لأي تعارض بين الولاء، أي الوفاء للذات، والمواطنة المدنية التي تمنح الفرد حقوقا سياسية محددة. بل إن الولاء هو الشرط الضامن للحقوق السياسية. من يريد أن يتحقق من هذا القول، يعود إلى كتاب المودودي «نحو دستور إسلامي»، في المادة 8، سيجد أن كل الحقوق التي تتكلم عنها الوثائق الأولى موجودة، ولكن مبنية على أسس مختلفة تماما عن الأسس التي تكلمت عنها اعتمادا على روسو.
قد يقال إن هذا انحراف المفهوم عن معناه ومنحاه. لكن لهذا الانحراف- إن كان هناك انحراف- ما يبرره منطقيا: انحراف يميني يوازي ما سبقه من انحراف يساري.
رغم الانتقادات الموجهة إلى تحليل روسو، يمكن اعتبار هذا التحليل النظري، المغالي في النظرية، عند روسو وغيره، آلة معيارية نقيس بها المسافة بين ما نعيشه، وما نتخيله في مجتمع ما. لتفعيل مفهوم المواطنة الكاملة المحصورة في أقلية محدودة، لا بد من مقدمات تاريخية، اجتماعية، عقائدية. إن هي تواجدت، تصورنا إمكانية تجسيد المفهوم، ولو على مراحل. في حال العكس، لعب المفهوم، كما أشرنا إلى ذلك في مستهل هذا الحديث، دور الضد، عملا بالقاعدة المعروفة: الشيء يُعرف بضده.
لاستحضار المفهوم، يتحضر التعبير عما نشعر به من غبن. وهذا هو وضعنا اليوم. نقرأ روسو، نستحسن أفكاره، نوظفها للإفصاح عن مشاعرنا. لكن لا أحد، في وضعنا الحالي، يسايره إلى آخر المطاف. كلنا يرى أن الحرية مطلب ملح، وليس صفة قائمة، وأن ما نعيشه في أحسن الظروف هو عملية تحرير لانهائي. كلنا يرى أن المساواة بين البشر فرضية أخلاقية، وليس معطى بديهيا، فرضية محتملة التحقيق إن صاحبها علم، بجانب امتيازات مجانية التي يرفضها الجميع. لدى كل واحد منا خصائص محببة: نفس، عقيدة، ميزة اجتماعية، مهارة ذهنية يستميت في الدفاع عنها.
كان الهدف من هذا البحث شرح المواطنة التامة، اعتمادا على أقوال أكثر المحللين عمقا واتساقا، أعني جون جاك روسو، وطرح مسألة شرح استيراد المفهوم لفهم حياة بعينها، كما هي حالة المغرب. المواطنة تعني المساهمة، حيازة سهم من السيادة. ليست صفة تنسب إلى نظام سياسي، فنقول: هذه دولة مواطنة، وإن يجوز القول إن هذه دولة شرعية، أو هذه دولة مواطنين. المفهوم يضاف إلى فرد: هذا مواطن في زمن محدد وفي دولة معينة. حتى في دولة الطاغية، يوجد مواطن واحد، هو الطاغية نفسه. وحتى في دولة الجمهور، يميز المواطن المساهم عن المجاور المعاهد، الذي هو مواطن بالمعنى اللغوي، أي المساكن.
المواطن بمعنى روسو غاية في التجريد. فهو لهذا السبب بالذات قابل للتجسيد في أنظمة مختلفة؛ في قبيلة كحال مكة الجاهلية، في مدينة كحال جنيف، في الزاوية كحال المدينة أيام النبي أو حال الكنيسة المسيحية، (تلاحظون أن نظام البابا هو نظام ديمقراطي، فيه انتخابات وحرية وخلايا نقاش، إلخ.) وحال الدولة العبرية القديمة، والدولة القومية الحديثة، كحال فرنسا إبان الثورة الكبرى، والإمبراطورية كحال روما القيصرية (عندما عممت المواطنة الرومانية على جميع سكان الإمبراطورية، حيث أصبح كل ساكن في الإمبراطورية الرومانية يتمتع بالحقوق نفسها، التي كان يتمتع بها في البداية شيوخ روما فقط)، والدولة الاتحادية كحال الاتحاد الأوروبي (توجد مواطنة أوروبية).
وبما أن المفهوم غير مرتبط بهيأة محددة، بل يصف حالة فردية (مواطن مكة، مواطن روما، مواطن الجمهورية الفرنسية، مواطن مدينة جنيف، إلخ)، فإنه يكتسي مظاهر شتى، حيث يمكن النظر إليه من جوانب مختلفة. الجانب الأول قانوني: من هو المواطن؟ ما هي شروطه ومؤهلاته؟ ما هي الحقوق والواجبات المرتبطة به؟ كل ذلك مضمن في الدستور، أكان عرفا أم مكتوبا (الدستور الإنجليزي عرفي)، وما يتفرع عنه من قوانين مدنية وجنائية. ما هي الأفعال التي تسقط الجنسية، وبالتالي المواطنة؟
نجد الجواب في القانون الجنائي. ما هو، مثلا، وضع الزنا؟ نجد ذلك في القانون المدني. (نذكر هذا، لأن المشكل مطروح الآن في فرنسا. هناك مواطنة، بالخصوص، تذهب إلى بلد، تنجب بالتلقيح. هذا المولود يسجل لها في البلد الذي أنجبت فيه. وعندما تعود إلى فرنسا، لا يكون لهذا المولود وجود قانونا، حيث لا يسجل في الحالة المدنية. يحدث هذا في بلد يقال عنه إنه بلد حقوق الإنسان.) إذن، على هذا المستوى، لا فرق بين مضمون citoyen وcitizen وكلمة national (حامل الجنسية). لذلك، لا يكاد يوجد فرق في اللغة الإنجليزية بين citizen وnational، في الاستعمال العام. في حين، في فرنسا، هناك فرق. لكن هذا على المستوى القانوني فقط.
الجانب الثاني سوسيولوجي. نجد هذا مبسوطا في المدونة الانتخابية، وما يتعلق بالمشاركة في النشاط السياسي من تسجيل وترشح وتزكية، إلخ. وهنا تطرح قضية الملكية الخاصة. المعوز من لا يملك شيئا. كيف يكون مشاركا في شركة الدولة، إذ ليس فيها سهم؟ روسو منظر المواطنة التامة يلغي الملكية الخاصة، كما ألغاها من قبل أفلاطون، بالنسبة إلى حماة الجمهورية، الذين هم مواطنون بامتياز. في حين أن المنظرين الإنجليز، مثل هوبز ولوك، يجعلون من الملكية هدفا. وأوضح عبارة عن هذا الاختبار الدستور الذي صادقت عليه اللجنة التأسيسية الفرنسية سنة 1791، وهي نفس الجمعية التي صادقت على إعلان حقوق الإنسان والمواطن، حيث ميّز بين المواطن النشيط والمواطن الخامل أو السلبي على أساس مستوى ما يؤديه للدولة من ضريبة.
وهذه المسألة هي الآن في عمق أزمة الديمقراطية التمثيلية في أوروبا، مع أن الكلام لا يفسح على هذا، ولكن النقاش المغلف هو من له الحق في تسيير السياسة، من يملك شيئا، من يخلق الثورة، من يمكن الدولة من أن تعيش، أم من لا يفعل شيئا من ذلك، بل ينتظر كل شيء من الآخرين. فهذا الوعي بأن هناك مواطنا مشاركا فعليا، ومواطنا مستهلكا فقط يطرح الآن سؤالا عويصا، ولا يمكن بدون شك إيجاد حل له. وهذا وجه النقد الاشتراكي الذي يؤكد أن لا مواطنة كاملة شاملة دون ملكية جماعية، أو على الأقل المشاركة في الملك العام. وهو مغزى الحقوق الاجتماعية التي أضيفت إلى الحقوق السياسية في فترة لاحقة.
يمكن اعتبار أن الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، التي منحت لقسم كبير من المواطنين، الهدف منها استدراجهم إلى المشاركة السياسية، حتى يكون لهم سهم في السياسة. إذا كنت تنتظر شيئا من المنظمة- من التنظيم السياسي- لابد أن تهتم به، لخلق هذا الاهتمام. لكي أستدرجك إلى المشاركة في الحياة السياسية، فإني أمنحك حقوقا اجتماعية، اقتصادية، إلخ. وهذه النقطة بالذات هي التي أوضحها وفسرها من يطلق عليهم اسم «فلاسفة المنفعة» (ستيوارت ميل مثلا) في بداية القرن التاسع عشر.
إذن، هذه الحقوق الاجتماعية التي أضيفت إلى الحقوق السياسية في فترة لاحقة كانت بمثابة إعلان للجميع للمشاركة واحترام ضمني أن لا المساهمة في الحياة السياسية دون شعور بالمصلحة الشخصية. هذه المسألة مطروحة اليوم بإلحاح بسبب العزوف عن السياسة؛ أي تحول المواطن من نشيط إلى سلبي، وتكاثر اللاجئين الأجانب، الذي يربطون تلقائيا الحقوق الاجتماعية الممنوحة لهم تحت تأثير قانون دولي غير مقبول مجتمعيا في عدة بلدان ديمقراطية بحقوق المواطنة في إطار سيادة وطنية.
الجانب الثالث تكوّني/ جينيالوجي: ما هي ظروف نشأة الفرد المؤهل للمواطنة؟ المنظر السياسي الكلاسيكي أقرب إلى فقيه قانوني منه إلى المؤرخ، كما هو واضح في كتابات هوبز وسبينوزا، يستهل تحليلاته بتعريف مفاهيم، وليس برصد حالات واقعية. ينطلق من نقطة معينة، ولا يعود إلى ما قبلها إلا نادرا. فالسياسة عند هؤلاء لا تبدأ في حياة البشرية إلا عندما يعي المرء أنه حرّ مستقل. فبالنسبة إلى البشرية جمعاء، يعتبر ما سميته بالفطام بمثابة سن الرشد بالنسبة إلى الفرنسي.
الجانب الرابع أخلاقي. لا يوجد مفكر كبير اهتم بالسياسة وأهمل التربية؛ أي إن هؤلاء المحللين كلهم ربطوا المواطنة بالفضيلة. لا يمكن أن تكون المواطنة مع الدناءة والخسة. كل تحليل يدور حول العقل والحرية والعدل والمصلحة، إلخ، يفترض في الفرد الفضيلة والاستقامة والصدق والأمانة. هذا ما ألمح إليه «كانط» في تعليقاته على كتابات «هوبز». وعي الإنسان بإنسانيته، الطفرة من العنف والتقاتل على حساب التعايش والمسالمة هو في آن واحد مفهوم نفساني وأخلاقي. وعي بالذات ووعي بالواجب. لا انفصام أبدا بين الحرية والتعقل، ولا مواطنة مع الدناءة والكذب والخيانة. هذه الخصال مطلوبة في كل حال: في إطار الأسرة، والحرفة، والقبيلة، فأحرى أن تكون ضرورية لاستمرار الدولة، التي هي النظام الأسمى.
الجانب الخامس والأخير سياسي. قلنا إن روسو حول مفاهيم الثيولوجيا إلى مفاهيم سياسية. لكن خصومه الذين عاشوا مآسي الدولة الفرنسية قلبوا بدورهم مفاهيمهم دون أن يعودوا إلى تأثير أنماط التفكير القديمة. هذه العملية الثنائية هي التي عرفها هيغل بالديالكتيك. اللحظة الثيولوجية هي عندما يتصور الإنسان الكمال في فكرة متعالية.
اللحظة السياسية هي تجسيد الصورة المثالية في العقل البشري. اللحظة التوفيقية التجانسية هي التي تتوحد فيها الإرادة البشرية والمشيئة الربانية. اللحظة التالية لم تتبلور إلا عند هيكل. فتظل اللحظتان، الأولى والثانية، متقابلتين متنافرتين، على مستوى الأصول، لا مستوى التدابير الإجرائية. ولا يبدو أن الصراع القائم بين الموقفين ينتهي عن قريب، ما دام مستعرا في قلب البشر. حتى من يتحاشى التوسع في الموضوع، كما فعلنا، ويطالب فقط برفع كل أنواع الحيف، لكي يعم المفهوم، ويصبح كل مواطن مجاور مواطنا مساهما في المؤسسة الجماعية، يصطدم، عاجلا أم آجلا، باعتراضات قوية: اجتماعية (عدم الكفاءة)، تاريخية (الخصوصية الثقافية)، أخلاقية (الرشوة)، وأخيرا وليس آخرا، عقائدية. لا حرية بدون وفاء. لا حق بدون وعي.