كان مما كتبه المنصف المرزوقي قبيل أيام معدودة، في صفحته، أن العالم العربي يوجد في مفترق طرق بين ماض طغى فيه النزوع لمشرقة المغرب، وهو النزوع المستمر في ما يسميه السيد منصف المرزوقي بمحور الشر المناهض للتغيير الديمقراطي والسيادة الشعبية، والنزوع الذي ينتصب السيد منصف المرزوقي مدافعا عنه، وهو مغربة المشرق..
توصلت برد على تدوينة المنصف المرزوقي من لدن سعيد سعدي من الجزائر. يقف سعيد السعدي على ما ورد في تدوينة المرزوقي من أن ما يجري في الجزائر من حراك سوف تكون له انعكاسات إيجابية على جارها الشرقي، لأن النظام الجزائري حينها، حسب المرزوقي، سعى إلى أن يجهض الدينامية الديمقراطية في تونس، ويدعم محور الثورة المضادة، ولذلك فنجاح المسار الديمقراطي في الجزائر سينعكس إيجابا على تونس، مثلما أنه سوف يضع حدا للحالة السيريالية مع المغرب، بإغلاق الحدود البرية، وهكذا لسوف تبرأ الجزائر، حسب المرزوقي، من أدواء الاستعمار والاستبداد…
ويقر المنصف المرزوقي بأن المنطقة المغاربية هي في مفترق الطرق.. قد تنزلق بالنظر إلى تأثير الاتجاهات الفاشية، وتدخل حينها في الصراعات الطائفية، ولكنها يمكن أن تنهض بالنظر إلى ثرائها الحضاري، وقابليتها على الانفتاح، واستيعابها للتعدد، وطبيعة نخبها.. يغلّب المرزوقي كفة الأمل والاستدراك والوعي من دون أن يغفل الأخطار المحتملة. لم يكن سعيد سعدي ليبعث برده على المرزوقي، لولا رغبته في توسيع دائرة النقاش، كي يتضمن طرفا مغربيا. وهو نقاش كنت قد بدأته قبل سنوات مع سعيد سعدي الذي لم تخُف رغبته منذ ذلك الحين، وإرهاصات التحلل بادية في الأفق لمنظومة مترهلة، من ضرورة التفكير في الخروج من المأزق التاريخي الذي توجد عليه المنطقة المغاربية. في الرد على المرزوقي، يؤكد سعيد سعدي الإيمان بوحدة شمال إفريقيا وتجذره في المخيال الجماعي، مثلما يظهر ذلك جليا كذلك في حركة الجماهير وهواجس المثقفين. يقر بأن الحراك الديمقراطي في الجزائر غايته التخلص من مخلفات الاستعمار والاستبداد… ومن الأصولية الدينية كذلك، وهو ما لا يعرض له المرزوقي. ينحو المرزوقي باللائمة على ما يسميه محور الشر، ويشير إلى الإمارات والسعودية ومصر. يرد عليه سعيد سعدي أنه يلتزم الصمت في ما يخص تدخلات مشرقية أخرى، ليست أقل تأثيرا ولا سوءا.
هل الخيار هو الانتقال من مشرقة المغرب، إلى مغربة المشرق، كما يقول المرزوقي؟ ما الفائدة من فرض تصورات على عالم غير مستعد للانسكاب في القوالب الكونية، وتطبعه الصراعات المذهبية والطائفية، وظل ينظر دوما إلى المغرب (بالمعنى العام) من عل؟ أليس الأجدى هو مغربة المغرب (الكبير) كي يعبئ قواته الكامنة، ويوجهها الوجهة التي من شأنها أن تحصنه من أي وصاية كانت، من الشرق أو الغرب. ومن الضروري تذكير المنصف المرزوقي بما كتبه في جريدة «لوموند» بتاريخ 20 إبريل/نيسان 2011 في خضم تفتق بواكير «الربيع العربي» من أن الانتقال الديمقراطي لن يتم من دون علاقات طبيعية مع الغرب، فهو أقرب إلينا من حبل الوريد، مع علاقات شراكة في الضفة الغربية للبحر الأبيض المتوسط. ولا شك في أننا في هذا الظرف الدقيق نحتاج، على المستوى المغاربي، حوارا حرا مثلما نحتاج رص جبهة ديمقراطية، إن صح هذا التعبير، تسند بعضها بعضا، كما كان الأمر إبان حرب التحرير.
الغاية مثلما يقول المنصف المرزوقي هو وحدة تكون في منأى من كل وصاية، ومحصنة من كل أنظمة فظة، وهو أمر لا يتنطح فيها عنزان، كما يقال، ولكن هل هناك حظوظ لمغربة المشرق مثلما يدعو المنصف المرزقي، وما الفائدة منه؟ أليس الأولى والأجدر هو المصالحة مع أنفسنا؟ هل يمكن أن نتستر على القطيعة التي تمت في البلاد المغاربية، وخاصة ما بين المغرب والجزائر، وتركت ندوبا.
إن المخرج مما تعيشه البلدان المغاربية يكمن في الوحدة، أو الفيدرالية، لأن الوحدة لا تعني هدم المسارات التاريخية لكل كيان وخصوصيته السياسية.. وواقع الحال يفيد بأن عدم قيام الوحدة، هو الذي جعل المنطقة المغاربية تخضع لنوع من الحماية أو الوصاية من بعض دول الشرق الأوسط.. نعم، المنطقة المغاربية في مفترق الطرق، كما يقول المنصف المرزوقي، بين احتمال الاندحار وهو أمر وارد، وإمكانية الاستدراك، وهو أمر ممكن، ولكنه لن يتم بقدرة قادر، ولكن برؤية، وانخراط نخبة. لا يمكن طبعا أن نضرب صفحا عما انتسج من علائق مع بلدن الشرق الأوسط لقرون، ثقافيا وإنسانيا وسياسيا، مع ضرورة نصرة القضايا العادلة، وكل ما يصب في احترام حقوق الإنسان وكرامة المواطن، ولكن للجغرافية كلمتها، والمحيط الأقرب لشمال إفريقيا هو الضفة الجنوبية حوض البحر الأبيض شمالا، وإفريقيا جنوبا.
أشاطر ما كتبه سعيد سعدي من أن «الثورة التي تجري حاليا ينبغي أن لا تدير الظهر للبعد الإقليمي في كفاحها. وهو الشرط الأساس في نجاحها». لنُنجحْ هذا الخيار، من دون أحلام إمبريالية، ولا أوهام أيديولوجية. وللمنصف المرزوقي فضل إثارة الحوار في ظرفية دقيقة وحاسمة. وليس لأصحاب الرأي أن يركنوا للتتبع والتأثر والانطباع، وإنما يتعين عليهم الانخراط في ما يجري والتأثير فيه بفكر ورؤية وشجاعة.