منذ موجة الثورات التي ابتدأت في تونس شهر يناير2011، يبدو أن “الربيع العربي” قد وقع بين فكي انبعاث الدولة السلطوية، ثم عودة الجهاديين من جهة ثانية، غير أن مطلب الكرامة والتطلع إلى الحرية لم يختفيا.
يظهر أن العالم العربي يواجه تحديات تشكل أمامه عقبة عليه التغلب عليها إذا ابتغى مستقبلا أكثر هدوء وديمقراطية واستقرارا. تتمثل هذه التحديات أساسا في سياسات الارتداد التي تنهجها الدول السلطوية، قصد التصدي للتطلعات التي تشرئب نحو التغيير. هكذا، التبس المسار الثوري، لاسيما مع مستجدات الرهانات الجيوبوليتيكية والطائفية، المطروحة مع ظهور تنظيم “داعش”.
العديد من الأنظمة العربية ينطبق عليها تعريف جون بيير فيليو باعتبارها ”مماليك انحدرت إلى الزمن المعاصر”. تاريخيا، نعلم أن المماليك هم جنود من طبقة العبيد أتت بهم الدولة العباسية (750-1258) من الأراضي المتواجدة خارج الدولة الإسلامية. وأمام أعين مسؤوليهم، وعلى أساس عدم انتمائهم للعنصر العربي، لم يكن لنزاعات الولاء، التي زرعت الشقاق ضمن عائلات كثيرة وقبائل وطوائف، أي تأثير على هؤلاء المجندين الجدد.
مع مرور السنين، امتلك المماليك نفوذا سياسيا وعسكريا انتهى، في القرن الثالث عشر، بإزاحة أسيادهم ثم الاستيلاء على السلطة في مصر والخليج. لقد فرضوا أنفسهم بسهولة، قدر عدم ارتباطهم بالمجتمعات التي كانوا يشرفون على شؤونها، بالتالي ليس لهم جماعات مساندة أو مناصرة يراعون لها جانبا. هذا منحهم بشكل واسع حصانة، اللهم ما تعلق بالغزوات الخارجية. هذا الإرث الأوتوقراطي أرسى دعائم الجمهوريتين العسكريتين العربيتين، في سوريا ومصر. أنظمة تعتبر، في الوقت ذاته، مُؤتمنة على قوة الدولة، ثم غريبة عن مجتمعاتها، التي كان قدرها أن تُحكم دائما بقبضة من حديد.
في بعض البلدان، تعود حالة الفكر هاته إلى الفترة الكولونيالية. في مصر، انبثق الإرث المملوكي مع بدايات القرن التاسع عشر باسم الدولة المدنية التي بلورتها إصلاحات محمد علي، الذي حكم ما بين سنة 1805 و1849.
لمواجهة “الربيع العربي”، ارتكز رد الفعل المماليك، كي تدافع بمختلف الوسائل، عن تلك الامتيازات التي أضحت بمثابة حقوق مِلْكية. يتوخى الماسكون بالسلطة ضمان عدم سقوط الدولة بين أيادي قوى مجتمعية أخرى، يعتبرونها من طبقة دنيا. لقد انتهت ثورة 2011 في مصر بإزاحة حسني مبارك، غير أن الانقلاب الذي تزعمه الجنرال عبد الفتاح السيسي، شهر يوليوز2013، ضد حكومة الإخوان المسلمين، أظهر التصميم غير العادي للعسكر بعدم التنازل، ولو على الفتات من امتيازاتهم. أما في سوريا، فالشراسة التي تصدى بها نظام الأسد للتظاهرات السلمية، أكدت عجز السلطة عن التسامح مع أبسط تشكيك.
عمليا، وطدت النزوعات الجيوبوليتيكية الأنظمة المعادية للثورة. لقد سمح لهم التهديد المتنامي للتوسع الشيعي بشيطنة كل معارضة داخلية، وسحقها بقمع مفرط، تحت مبرر الأمن الوطني.
مثال آخر عن هذا الالتقاء المميت: البحرين، بالنسبة لمسؤولي هذه المملكة السنية الصغيرة، فالمعارضة التي برزت خلال لحظة ”الربيع العربي” لم تكن سوى دمية تحركها أيادي إيران، التي تحرض ساكنة شيعية تشكل الأغلبية داخل البلد، علما أن ارتجاجات التطلع إلى إصلاحات ديمقراطية لم تتوقف في البحرين منذ سنة 1971. وضعية معكوسة بالنسبة لسوريا، فالأسد المدعوم من طرف طهران يتهم المعارضة بكونها تؤدي لعبة سنية متآمرة، تحركها الولايات المتحدة الأمريكية بهدف السيطرة على الشرق الأوسط. إذن، الخوف من رؤية المنطقة مكتسحة برمتها سنيا، يفسر ماهية هذا التحالف المؤيد للأسد، القائم على فسيفساء واسعة من الأقليات، تبدأ بالعلويين السوريين ثم الشيعة اللبنانيين لحزب الله، مرورا بالحوثيين في اليمن.
منذ حقبة ”الربيع العربي”، ازداد بأس النزاع السني-الشيعي. من بين العوامل التي عجلت بهذا الأمر، نجد تراجع أسعار البترول، ثم إبرام الاتفاق الدولي حول المشروع النووي الإيراني، لكن أيضا النظر إلى كل تعدد سياسي كتهديد للأمن الداخلي. مثلا في مصر، نتج عن عودة النظام العسكري قمع شرس للإخوان المسلمين، المتهمين بالإرهاب، بينما هم أقلعوا عن تبني العنف وكذا الصراع المسلح. لم يكابد هؤلاء ومعهم المعارضة المصرية اضطهادا بهذا الحجم، منذ سنوات 1950. إستراتجية السلطة المناهضة للإرهاب تتم وفق صيغة تخمين التحقق الذاتي: القمع العسكري- البوليسي، يستفز ويثير ردود فعل عنيفة، التي تبرر ثانية نظاما أكثر قسوة .
أنظمة المماليك المعاصرة هاته توظف مسألة الخوف من الجهاديين، كي يغمض الغرب أعينه على بطشها، ويعود إلى سياسة دعمه اللامشروط لسياساتها السلطوية. وضع يشجعهم كي يمارسوا لعبة مزدوجة: التصدي للتطرف داخليا، ثم، في الآن ذاته، العمل على تفعيل سياسات توطده خارجيا.
هكذا، في ليبيا سُمح عمدا لقوى الجنرال حفتر، بدعم أوروبي وأمريكي، كي تسيطر على منطقة سرت، وفضلوا تكريس كل جهودهم لقتال حكومة طرابلس المنافسة. في سوريا تفاعل الأسد مع “الربيع العربي” بأن أطلق سراح العديد من الإسلاميين المعتقلين، ثم ملأ السجون بمناضلين من جماعات معارضة أخرى. أما عن اليمن، فقد صنفت الحكومة الحوثيين كجماعة إرهابية تخدم المصالح الإيرانية، وفي المقابل تفاوضت مع القاعدة. أما إذا عرجنا على النظم الملكية الخليجية، فهي لا تتردد في نعت “داعش” كعدوها اللدود، بيد أنها لا تفعل شيئا يذكر -أو قليلا جدا- من أجل منع الجماعات النشيطة فوق أراضيها من تقديم الدعم المادي للتنظيمات الإسلامية المسلحة خارج حدودها. ازدواجية كهذه تشير إلى أن أغلب الدول العربية، وعلى العكس من إقراراتها، ليست في عجلة من أمرها بخصوص اختفاء التهديد الجهادي، مادام يمنحها مبررا لكبح كل إصلاح ديمقراطي.
الاستفادة على المدى القصير من هذا السبيل يجازف، عاجلا أم آجلا، بالاصطدام مع الطبيعة غير المتوقعة للسياق الثوري. لقد أعلن الملاحظون الغربيون، تقريبا، عن موت ”الربيع العربي”، إنها قضية مفروغ منها بحسبهم: وحدها الديمقراطية التونسية الهشة لازالت تطفو فوق أرض الخراب. هناك تشخيص يتقاسمه المسؤولون العرب يتمثل في العمل على تقليب صفحة شكلت لهم ذكرى سيئة. بالتالي فعودة العصا من أجل معاقبة المطالب الديمقراطية في دول كثيرة له بالتأكيد ما يبرره حسب تصورهم. لكن التاريخ يعلمنا أن الثورات، على منوال الأمواج، تتدفق بكيفية دورية: تنبعث على نحو حتمي مطالب الكرامة والحرية، سواء كانت الحكومات مهيأة لذلك أم لا.
اليوم هدوء الشارع لا يعني قط اختفاء المسار الثوري. القضايا التي أفرزتها الموجة الأولى لسنة 2010 لم تتبخر بل على العكس، نسبة البطالة في جل البلدان العربية دائمة الارتفاع، كما الحال قبل خمس سنوات. الاقتصاد لازال مصابا بالوهن، الإدارة بلا فاعلية، كما أن الاقتصاد الخاص لم يتخلص بعد من لغة التلعثم. داخل هذه المجتمعات يتردد دون توقف صوت أعداد كبيرة من الشباب الذي يعيش غليانا، أخفقت حكوماته حتى الآن كي تقدم له الرؤى. أيضا، تصر منظوماتنا التعليمية على أن تصنع التميز بالمال عوض الاستحقاق، وإنتاج ورثة لا يملكون الكفاءات الضرورية تؤهلهم لخوض التنافس في الأسواق العالمية.
الأكثر سوء: يواصل المسؤولون حظر حق الكلام عن المواطنين. تواطؤ الطبقة السياسية والأوساط المالية يبقى غير قابل للاختراق، مما يفسح المجال لنخبة صغيرة متمسكة بامتيازاتها كي تتحكم ليس فقط في أجهزة الدولة، لكن أيضا في ثروات البلد، بالتالي لا نستغرب كون أسطورة النمو لم تعد، يوما بعد يوم، تلهب مخيلة شعوب المنطقة، وقد جرفتها بلاغات رسمية مضلِّلة حول نمو الناتج الداخلي الخام، وهي تلاحظ أنها لا تخلق وظائف للعاطلين ولا مستقبلا للشباب. ازدياد الفوارق الطبقية، انعدام البنيات التحتية، تخلف النظام التعليمي، الفساد المستشري: لا واحدة من هذه المساوئ وجدت لها جوابا منذ 2010 .
إذا استمرت المشاكل البنيوية، أو تفاقمت، سيعرف النسيج المجتمعي والثقافي للمجتمعات العربية تغيرا جليا. لم يعد المواطن العادي يعيش في إطار الخوف من السلطة، لذلك لم يعد بالإمكان إخضاعه بالسهولة المفترضة، بالإكراه أو التأطير الإيديولوجي. أو بالأحرى، لقد غير الخوف موضوعه، بحيث تتركز الخشية حاليا حول تمدد “داعش” خاصة والجهاديين، وكذا انهيار دولتي سوريا واليمن. هذا التوجس الجديد المهيمن حاليا في كل مكان يفسر عدم التفات العديد من المواطنين، إلى الحديث عن إمكانية إصلاح ديمقراطي. خيبة الأمل هاته تضاعفت نتيجة فشل الحركات الثورية في مصر وليبيا، دون الحديث عن المغرب والأردن، حيث تعثرت التطلعات نحو التغيير أمام أبواب القصر الملكي. لا شيء يثير الاستغراب، كون تمازج المخاوف والإخفاق خلق مناخا من الخمول المجتمعي، لذلك فمساندة النظام، في أكثر الأحيان، تترجمه فقط محاباة منقادة، نظرا لغياب حلول أخرى ترفع لواء التغيير.
غير أن الخوف، والخيبة، وفتور الشعور، هي حالات ذهنية عابرة، لا يمكن للمسؤولين الاستمرار في تغذيتها بطريقة أبدية، رفضهم اقتراح إصلاحات جديرة بالتصديق يضع الجمر في الرماد منذ خمس سنوات، فمن المحتمل أن الأسباب نفسها تنتهي مع أقرب فرصة ببلورة النتائج ذاتها، بالتالي يجدر بهم الاختيار بين: الشروع في تفعيل إصلاحات آنية، أو ترقب اندلاع ثورات جديدة.
مؤشرات عدة توحي أن هذا المأزق قد يغدو سريعا ضاغطا. لبنان، على سبيل الذكر، يعرف، منذ الصيف الأخير، تظاهرات حاشدة بسبب عجز الحكومة عن تأمين جمع النفايات، فالحنق حيال الأزبال المتراكمة في الشوارع قد يعبئ فعلا دون اعتبار لمسألة التباينات الدينية والإثنية، لأنه يمنح الفرصة للبنانيين، لاسيما الشباب، كي يعبروا عن حرمان أكثر استفاضة وعمقا. لا يتعلق الأمر فقط بفضح تهاون الحكومة، لكن أساسا الإطاحة بنظام طائفي باطل، حتى ولو وفر للبلد خلال فترة طويلة ما يبدو أنه استقرار سياسي. لقد طالب المتظاهرون بتكريس نظام أكثر ديمقراطية، يضع جميع اللبنانيين على قدم المساواة، عوض مركزة السلطة بين أيادي نخب هرمة اختيرت على أساس معايير عتيقة.
منذ أشهر قليلة تحولت الجزائر إلى مسرح لحركة مجتمعية غير مسبوقة، فالإعلان عن استغلال الغاز الصخري في الصحراء، أجبر ملايين من سكان تلك المنطقة الفقيرة والقاحلة كي يبادروا إلى إعلان رفضهم المزدوج، للأضرار المحتملة الناتجة عن التكسير الهيدروليكي، وكذا نموذج تنموي يتحايل على الخيرات الطبيعية. نضال كهذا، يكتسي دلالة خاصة، إذا تذكرنا أن ”الربيع العربي” الجزائري ينهل من روافد أكثر قدما، أي تلك التظاهرات الهائلة التي تعود إلى سنة 1988، تنشد التغيير والديمقراطية، ثم بعد ذلك فوز جبهة الإنقاذ الإسلامية بالانتخابات، وانقلاب العسكر على النتائج، وما ترتب عنه من حرب دموية. منذئذ، رافق هذه التراجيديا نزاع بين الدولة والمجتمع.
إذن، وإن كانت صراعات مشتتة ومتفرقة تنبثق هنا أو هناك فهي تؤكد بأن فكر2010 لم ينطفئ بعد.
إن الدرس الأساسي الذي نستخلصه من “الربيع العربي'” مفاده أن تحقيق تحول سياسي واجتماعي يتطلب أكثر من مجرد تحركات منتظمة. فرغم نجاح مطلب إسقاط ديكتاتور، يبغضه الجميع، يجب على القوى المعارضة التوفر على قدرات تنظيمية وكفاءات سياسية، وهو الجانب الذي افتقدته المعارضة المصرية بعد انتصارها السريع سنة2011 . عجزها عن التصدي لصعود العسكريين من جديد، بقي في ذاكرة الكثيرين كبداية لنهاية “الربيع العربي”. صحيح أنه بالنسبة تقريبا لكل البلدان المعنية فقد ارتكب زعماء المعارضة الأخطاء القاتلة نفسها. لكن هل استخلصوا العبرة، وتهيؤوا أفضل لعودة الربيع ثانية؟
السيناريو ذاته يفترض كذلك أن نتجاوز، قبل كل شيء، عقبة أخرى جد مخيفة، تمثلت في ظهور “داعش”. التنظيم الذي يعود انبثاقه وظهوره السريعان إلى ضعف الدول التي زحف عليها من جهة، ثم اللعبة المدمرة للتنافس الجيوبوليتيكي والتدخلات الأجنبية.
لقد أرادت سخرية القدر أن ينبعث “داعش” فوق أرض العراق وسوريا، البلدان اللذان اعتبرا، لردح طويل من الزمان، نموذجا للاستقرار واستحالة النفاذ نحو التغيير، خاصة بسبب الهيمنة التي يمارسها جهاز الدولة على المجتمع. وإذا كانت شراسة “داعش” تطبع مرحلة جديدة من تحول الإيديولوجيا الجهادية، فإن المادة البشرية الضرورية لنموه نمت سلفا في المكان عينه.
لم يتطلب تمدد “داعش” داخل سوريا فقط مجندين أجانب، بل وجد دعما محليا، نظرا لعدم اهتمام الدولة السورية بالتفاعل مع حاجيات شعبها، مما أفسح المجال لنمو جيوب الفقر والحرمان، التي وظفت بيسر من طرف تنظيم مجهز جدا. أما بخصوص العراق، فقد عثر التنظيم على مجال خصب وملائم في حضن الجماعات السنية، التي عانت الإقصاء من طرف حكومة النوري المالكي، بعد تفكك جهاز الدولة، جراء الاجتياح الأمريكي.
هذا الأخير، ارتكز على ميليشيات شيعية تخلق الرعب بابتزازها، والتي نهبت، باستخفاف، بقايا العتاد العسكري للجيش العراقي السابق، ثم وفر لها حزب الله الإطار على مستويات التنظيم والدعاية وكذا القوة العسكرية. بهذا المعنى، لا يجسد “داعش” مجرد قوة مستوردة، بل هو كذلك تفاعل محلي ضد اضطهاد الحكومة المركزية. أيضا، هو تحالف لقوى تتعايش في ظلها الأقلية المسيحية، مع مكونات قبَلية متعددة وجماعات محلية، عانت التمييز الذي مارسه فيما مضى ضباط نظام صدام حسين. لكن تنبغي الإشارة إلى أن “داعش” يختلف عن “القاعدة” على مستويات أساسية عديدة:
* تتصور “القاعدة” الجهاد بمثابة عملية محض عسكرية، وليس بقضية تستهدف السيطرة على منطقة أو توطيد مؤسسات، مادامت تحدد نفسها باعتبارها شبكة من المقاتلين الرٌّحل، يؤجلون قطف ثمار حربهم إلى ما بعد حياتهم على الأرض. أما أهداف “داعش”، فيتوخى التحقق الفوري: ليس للعنف نهاية، لكنه اجتياح للأراضي، ثم تنصيب حكومة واستغلال مختلف الموارد الجغرافية والزمانية.
* تنتقي “القاعدة” بدقة أعضاءها، وتفرض عليهم مقتضيات صارمة، بينما “داعش” فيترك المجال مفتوحا للالتحاق بصفوفه، والخاصية الوحيدة المطلوبة هي التحفز.
* تتألف “القاعدة” حصرا من مقاتلين، وتطمح كي تصير تجمعا بشريا، لذلك تحتاج إلى نساء وعائلات وأطفال، وفيما يتعلق بالمجندين الأجانب، فيرتكز دورهم بشكل أقل على حمل السلاح، بينما الأهم ترويجهم لصورة مثالية عن جماعة المؤمنين، بواسطة رسائلهم الدعائية الموجهة نحو العالم الخارجي.
لا حاجة للتذكير أن مفهوما كهذا للدولة يمثل استفزازا، إن لم تكن بدعة، بالنسبة لعموم السنة أنفسهم، مما يفسر هذا التحالف الواسع جدا للدول العربية. غير أنه لا يمكننا فهم الظاهرة “الداعشية” دون استحضار سياق التدخلات الخارجية. التهديد الجهادي يساعد في الواقع قوى مثل روسيا وتركيا كي تعثر على حجة قصد توطيد طموحاتها داخل العالم العربي. بالتأكيد القذائف الروسية في سوريا تتساقط على “داعش”، لكنها تكشف أساسا عن سعي موسكو لتوسيع مجال تأثيرها داخل الشرق الأوسط، سعيا لبعث القوة الامبريالية المفقودة مع انهيار الاتحاد السوفياتي. روسيا، بدعمها لنظام الأسد، تدبر عملة تقايض بها أوكرانيا أو أي منطقة أخرى، يمكن للغرب أن ينازعها بشأنها.
محليا، الهدف الاستراتجي بسيط: الإبقاء على الوضع الراهن الذي سيضمن للرئيس السوري ملاذا مستنسخا أساسا على قاعدة طائفة العلويين، لكن من غير المستبعد أن تخفق في النهاية خطة من هذا النوع بناء على المسار العسكري. في الانتظار، يتوخون تحيين هذه المقاربة البالية، المرتكزة على ضبط الشرق الأوسط عبر أطياف الهويات الإثنية والطائفية، بدلا من تكريس مفاهيم الدول المحددة قانونيا.
لهذا السبب كذلك يوشك التحالف الروسي-السوري، بين لحظة وأخرى، الامتداد إلى العراق. لقد عدلت بغداد تدريجيا عن مشروع العودة إلى الوحدة الوطنية، المتعددة طائفيا، مثلما كان الوضع في الماضي، وأضحت الدولة العراقية تدرك ذاتها، باعتبارها فقط شيعية، لا غير. أيضا لا مصلحة لها تذكر بخصوص استعادة المناطق الواقعة تحت سيطرة “داعش”، لأن ذلك سيجبرها على إعادة توحيد الجماعات السنية التي تبغضها. بالتأكيد تفضل الاستفادة من المظلة العسكرية الروسية التي قد تحل في نهاية المطاف محل الدرع الأمريكي.
إن مخاطر عمليات إرهابية انتقامية لا تخيف كثيرا السيد فلاديمير بوتين، بينما انفجار قنبلة داخل قطار ميترو الأنفاق، وسط عاصمة أوروبية، من شأنه إضعاف الحكومة المعنية، بالنسبة لروسيا أمر كهذا يخدم خطط رئيس الدولة: تكريس التهيب من الإرهاب، يبرر سياسة حديدية، سواء داخل البلد أو خارج حدوده. لذلك ليس من مصلحة موسكو القضاء على تنظيم “داعش” مادام يستخدم بشكل مفيد جدا لإضعاف المصالح الأوروبية، وكذا احتواء المعارضة السورية المناصرة للغرب.
إجمالا، تنظيم “داعش” يقدم خدمات للجميع: يستعمله النظام السوري من أجل التمويه عن فظاعاته، والسعودية بهدف تعزيز المعركة الأيديولوجية ضد الشيعة، وإيران بهدف تقسيم المعسكر السني، وتركيا لتصفية حسابها مع حزب العمال الكردستاني (PKK).
في حالة تركيا، تنهض أساسا استراتجيه التوظيف الأداتي لـ”داعش” على حاجة داخلية، بحيث تبتغي تنصيب متاريس ضد البلبلة. التحالف ضد “داعش”، والذي تشارك ضمنه أنقرة بشكل واضح، يوفر لها غطاء كي تهاجم ليس فقط الأكراد داخل تجمعاتهم الخاصة، بل أيضا أكراد سوريا والعراق. تصعيد من هذا القبيل بوسعه أن يزيد من حدة عدم الاستقرار العام، وخلق محور جديد للصراع، لا يبدو أنه يفزع السيد أردوغان، المهتم خاصة باستخلاص مكاسب انتخابية من سياسة الأسوأ هاته.
كشفت هجومات باريس الإرهابية عن تحول في إستراتجية “داعش”. تعتبر هذه الأحداث العنيفة تكملة لما وقع في بيروت ضد حزب الله المساند لنظام الأسد، وكذا إسقاط الطائرة الروسية في سيناء المصرية، بحيث برهنت على نوع من الكفاءة أبان عنها التنظيم خارج سوريا والعراق، لضرب المتحالفين ضده بكيفية جلية، كما تثبت تأثره بالضربات القوية التي تلقاها داخل معاقله: قيامه بهذه الهجومات المضادة في الخارج يترجم تراجع اندفاعه الهجومي على مستوى الجبهة الداخلية. إن مخاطر الإرهاب في خط متصاعد. باختصار هذا العنف اللاعقلاني ظاهريا هو مُبين، وضمن السياق نفسه المنطق القيامي لـ”القاعدة”.
بوسع الغرب أن يعزز حملته العسكرية الجوية، لكنه لن ينجح في استئصال “داعش”. لقد بينت التجربة نجاعة الفاعلين غير المرتبطين بتنظيمات رسمية للقيام بعمليات اقتحام ميدانية، مثال على هذا الهجوم القوي للأكراد على سنجار، تماما كتدخل القبائل البدوية لعشيرة شمر في النزاع ضد “داعش”. بالتالي فالمبادرة إلى مهاجمة التنظيم الإرهابي، على نحو فعال، تقتضي حقيقة إستراتجية توحد كل القوى الحاضرة على الميدان، مع تخفيض مستوى الحسابات المتضاربة والتجاذبات الجيوبوليتيكية.
مآل الدومينو المناهض للثورات كما راهنت عليه الدول السلطوية، ثم إمكانية تجل ثان لـ”الربيع العربي”، وتشابك المصالح حول الوحش الجهادي: إن التمزق بين هذه المنظورات الثلاث يجعل مستقبل العالم العربي غامضا بشكل راجح.