تعد الحرب الروسية-الأوكرانية منعطفا في العلاقات الدولية والوضع الجيوسياسي للكثير من الدول، نظرا لتأثيراتها العميقة سواء على المستوى الاقتصادي أو التموضع والتخندق. وتعتبر بعض الدول معنية أكثر من غيرها سواء بسبب موقعها الجغرافي أو دورها الاقتصادي المرتبط بالطاقة. ومن ضمن هذه الدول الجزائر التي يعتقد الحلف الأطلسي أنها يجب أن تكون بديلا نسبيا للغاز الروسي.
وفي ظرف أقل من ثلاثة أسابيع، تعمل الحرب الروسية-الأوكرانية على إعادة تشكيل الكثير من القضايا سواء في العلاقات الدولية من خلال بدء إعلان الموقف السياسي سواء في المنظمات الإقليمية مثل الجامعة العربية أو الاتحاد الأفريقي وفي الدولية مثل منظمة الأمم المتحدة. وانفردت عدد من الدول العربية بموقف مختلف عن الكثير من الأخرى، لاسيما الدول العربية التي تعتبر موالية للغرب. إذ اتخذت الإمارات العربية موقفا مثيرا برفض إدانة الحرب الروسية ضد أوكرانيا في مجلس الأمن الدولي، ثم الرفع من مستوى الاتصالات مع موسكو خلال الأسبوعين الأخيرين. كما ابتعد المغرب، وهو حليف آخر للغرب، نهائيا عن الصراع بدون إبداء موقف سياسي والاقتصار على الحوار لحل النزاع.
الجزائر البديل الشائك
ومن الدول التي يجري التركيز عليها بسبب خاصيات تنفرد بها توجد الجزائر لسببين. في المقام الأول، تعد حليفا قويا لروسيا في البحر الأبيض المتوسط ولاسيما في غرب هذا البحر، أي الحدود الجنوبية للاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي، وهذه نقطة تقلق الغرب كثيرا. وفي المقام الثاني، بسبب ما تتوفر عليه من موارد الطاقة مثل النفط وأساسا الغاز الذي يحتاجه الاتحاد الأوروبي ويتم رؤية هذا البلد كبديل نسبي لتنفيذ سياسة التقليل من الاعتماد على الغاز الروسي. ووسط كل هذا، تجد الجزائر نفسها في موقف حساس، فهي من جهة لا تريد إغضاب موسكو، الحليف العسكري الدائم، ولا تريد خسارة الغرب تفاديا لمخططات قد تستهدفها مستقبلا علاوة على استغلال الفرصة للرفع من عائدات الطاقة لتمويل مخططاتها بالتحول الى قوة إقليمية في شمال أفريقيا وغرب البحر المتوسط.
وقبل اندلاع الحرب الحالية وبعد اشتعالها، نشرت الصحافة الغربية ومنها جريدة «لفنغورديا» الإسبانية بداية شباط/فبراير الماضي نقلا عن الحكومة الإسبانية الرؤية الاقتصادية لمنظمة الحلف الأطلسي في مجال الطاقة، أي ضمان النفط والغاز للدول الأعضاء وأساسا الاتحاد الأوروبي بحكم امتلاك دول أخرى الاكتفاء الذاتي وخاصة الولايات المتحدة. وطرح الحلف الأطلسي الاعتماد على دول معينة، ويتم التركيز على الجزائر لأنها المصدر الثالث للغاز إلى القارة الأوروبية بعد روسيا، ثم القرب الجغرافي، علاوة على سهولة نقل الغاز عبر الأنابيب.
وتوجد ثلاثة أنابيب لنقل الغاز الجزائري إلى أوروبا، أنبوب من الجزائر عبر المغرب نحو إسبانيا، وقد جرى تجميده نهاية تشرين الأول/أكتوبر الماضي. ثم أنبوب من الجزائر نحو إسبانيا ويتم الرفع من قدرته وأخيرا الأنبوب القديم نحو إيطاليا عبر الأراضي التونسية. كما يتم الاعتماد على النقل البحري، أي الغاز المسال.
وتفيد مصادر أوروبية أن استثمارا قويا في الجزائر على مستوى التنقيب عن النفط ثم تطوير البنية اللوجستية مثل أنابيب الغاز، علاوة على مساعدة نيجيريا على تشييد أنبوب للغاز سواء عبر الجزائر أو المغرب، سيجعل الاتحاد الأوروبي يقلص من الاعتماد على الغاز الروسي بـ 50 في المئة، أي لن يشكل أكثر 20 في المئة من الواردات. في الوقت نفسه، يمكن تنفيذ عملية تكميلية تتجلى في الرفع من صادرات الغاز الأمريكي نحو القارة الأوروبية، والرفع من صادرات النرويج علاوة على قطر. لكن هذه المشاريع تحتاج الى ست سنوات على الأقل، لجعل ثقل روسيا في احتياجات الطاقة غير محوري.
وعمليا، إذا تمت إعادة تشغيل أنبوب الغاز الذي يمر عبر المغرب نحو إسبانيا «المغرب العربي-أوروبا» أي 12 مليار متر مكعب سنويا، ونقل هذا الغاز مسالا إلى المانيا بحكم توفر إسبانيا على تسع موانئ لتحويل الغاز، سيتم التخفيض بـ 20 في المئة من الغاز الروسي ابتداء من الآن.
ويبقى الهاجس الرئيسي حاليا هو إنقاذ دولة من حجم ألمانيا حتى لا تبقى رهينة للغاز والنفط الروسي. وتعد ألمانيا أكبر محرك للاقتصاد الأوروبي والدولة الرابعة اقتصاديا في العالم في العالم وإحدى أعمدة الاقتصاد الغربي. ومن نقاط ضعف ألمانيا هو عدم اعتمادها على المحطات النووية لتوليد الغاز لأنها أنهت العمل بهذه المحطات عكس جارتها الجنوبية فرنسا التي تحصل على 75في المئة من الكهرباء من الطاقة النووية.
وترغب الجزائر في تطوير شراكتها في الطاقة مع الاتحاد الأوروبي، سوقها الكلاسيكية لسببين رئيسيين، أولا، هذا سيمنحها مكانة هامة في مواجهة الاتحاد الأوروبي تتجاوز ما هو اقتصادي الى ما هو جيوسياسي مثل اكتساب قوة أكثر كمخاطب في قضايا شمال أفريقيا ومنطقة الساحل. وثانيا، الحصول على عائدات مالية أكبر بسبب الرفع من صادرات، وهذا سيسمح لها بتطوير البلاد وتمويل مخططاتها الدبلوماسية والعسكرية للتحول إلى قوة إقليمية.
عدم طعن روسيا في الظهر
لكن في المقابل، هناك عائق أكبر وهو ضرورة الحفاظ على العلاقات الاستراتيجية جدا مع روسيا، ثم عدم الثقة في الغرب، لاسيما وهي ترى كيف تخلى الغرب عن أوكرانيا بعد أن شجعها على تبني سياسة متطرفة تجاه روسيا. في هذا الصدد، تدرك الجزائر أهمية الحليف الروسي، فقد ساد الاعتقاد إبان الربيع العربي وخاصة بعد سقوط نظام معمر القذافي في ليبيا ووجود مخططات بإقامة أنظمة موالية للغرب في شمال أفريقيا خاصة في الدول المنتجة للنفط، أن الجزائر قد تتعرض لتدخل عسكري على شاكلة ما فعل الحلف الأطلسي في ليبيا. فمن ضمن أسباب التدخل في ليبيا تقسيم البلد وجعل الشطر الشرقي والجنوب مرتبطا بفرنسا وبريطانيا لضمان الطاقة.
وقتها سارعت روسيا إلى تزويد الجزائر بأسلحة متطورة للحفاظ على حليفها في البحر الأبيض المتوسط خاصة وأن موسكو تفتقر لدولة متعاطفة معها غرب هذا البحر عكس شرقه حيث توجد سوريا وفيها قاعدة عسكرية روسية مهمة وهي طرطوس. وعلى رأس هذه الأسلحة التي قدمتها روسيا إلى الجزائر منظومة الدفاع المتقدمة إس 400 سنة 2014، وكانت أول بلد يحصل عليها قبل الصين. في الوقت ذاته، زودتها بصواريخ كالبير وإكسندر وتجهيز الغواصات الروسية. كما قامت بتطوير طائرات سوخوي 30 بصواريخ أكثر فتكا. وهذه هي بعض الأسلحة الرئيسية التي تعتمدها روسيا الآن في حربها ضد أوكرانيا، فقد أسقطت معظم المقاتلات الأوكرانية بنظام إس 400، ودمرت البنية العسكرية لهذا البلد بصواريخ كالبير وإكسندر. ومنحت هذه الأسلحة نوعا من الثقة للجزائر أمام ما تعتبره استهداف الغرب لها. وعلاوة على التسبب في سباق تسلح مع المغرب، خلقت روسيا بتسليحها للجزائر هاجسا للدول الأوروبية المتوسطة مثل إسبانيا وفرنسا القلقتين من هذا التسلح.
البحث عن التوازن
ووسط كل هذه التطورات، تعد الجزائر الدولة العربية الأكثر التي تمر بامتحان صعب في الحرب الروسية-الأوكرانية مقارنة مع الدول العربية الأخرى، وتفادت التنديد بروسيا في الجمعية العامة أو إظهار أي موقف يستشف منه معارضة سياسة موسكو في أوكرانيا. إذ تسعى إلى تحقيق توازن بين مطالب الغرب من الطاقة للتخلص من الضغوطات الروسية مستقبلا، كما تسعى إلى الحصول على عائدات مالية أكبر يجعل إنتاجها القومي يتجاوز 200 مليار دولار سنويا. ولكنها لا تثق كثيرا في هذا الغرب الذي يبحث عن مصالحه. وفي المقابل، لا ترغب في تبني سياسة تصدير للطاقة تضعف نسبيا روسيا بعدما جعلت موسكو من الطاقة سلاحا حقيقيا في مواجهة الاتحاد الأوروبي. وإذا مالت الجزائر كثيرا إلى الغرب ستفقد العلاقات الاستراتيجية المتقدمة التي تجمعها مع موسكو بل تدرك أن طعن روسيا في هذه اللحظة الحرجة من تاريخ القرن 21 سيكلفها غاليا مستقبلا لأن هذه الحرب تعتبر منعطفا تاريخيا ويترتب عنها قرارات تاريخية.