تقدم الاهتمام بإشكالية الثقافة في فضاءات الفكر المعاصر، الغربي والعربي على السواء. الأمر الذي يمكن تفهمه من خلال الدلالات التي اكتسبها مفهوم الثقافة حديثاً، وجعلت منه مفهوماً مثيراً للجدل يتداخل مع أسئلة الهوية والاختلاف، والوحدة والتعدد، والاستبداد والديموقراطية. وعلى هذه الخلفية، يطرح عبد الرزاق الدواي في كتابه «في الثقافة والخطاب عن حرب الثقافات» (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 2013) إشكالية الثقافة، لا سيّما وأنّ مفهوم الثقافة، كما يتداول في فضاء الفكر المعاصر، ينحو تدريجاً لاحتلال مكانة مفهوم الأيديولوجيا الذي هيمن على ساحة الفكر الفلسفي والسياسي لأكثر من قرن.
تناول المؤلف مفهوم الثقافة الملتبس في الفكرين الغربي والعربي على السواء، فرأى أنّ كلمة culture التي دلت في سياق نشأتها الأصلية على حرث الحقول وزراعتها قد وظفت في ما بعد في معنى استعاري للدلالة على العناية في شؤون النفس والعقل. أما في العربية، فتلتقي معاني كلمة «ثقافة»، مهما تتعدد وتختلف، للدلالة على مركب من المعاني يشمل في الآن نفسه صفات الحذق والمهارة والفطنة والتقويم والإصلاح. ومن بين معانيها المستحدثة، الدلالة على المعارف والعلوم والفنون، أو الدلالة على مجموع السمات والخصائص والعادات والأنظمة الاجتماعية والقيم السائدة. وإذا كان من غير المعروف بالتحديد متى بدأ استعمال كلمة «ثقافة» في العربية بمعانيها المستحدثة، إلا ان الفضل في ذلك يرجع الى الجيل الرائد من النهضويين العرب، وفي طليعتهم سلامة موسى الذي ذكر في مقالة في «الهلال» عام 1927 انه اول من أفشى هذه اللفظة في الأدب العربي الحديث زاعماً اقتباسها من ابن خلدون، اذ وجده يستعملها في معنى شبيه بمعناها الشائع في الفكر الأوروبي.
اما في الفكر الغربي الحديث، فيرجع اول تعريف شامل ودقيق لمفهوم الثقافة الى الإنكليزي ادوارد تايلر ( 1832 -1917)، الذي رأى ان الثقافة هي ذلك المركّب الكلي الذي يشمل على المعارف والمعتقدات، والفنون والآداب، والأخلاق والقوانين والأعراف والقدرات، وكذلك كلّ الاستعدادات والعادات التي يكتسبها الإنسان، بصفته عضواً في مجتمع معين. أمّا ليفي ستروس فذهب الى ان كلّ ما يتصف بالضرورة يرد الى الطبيعة، في حين ان كل ما يخضع لعرف او لقاعدة اجتماعية ينتمي الى المجتمع وبالتالي الى الثقافة.
ومع نشأة علم الأنتروبولوجيا وتطوره، سعى كثيرون من الباحثين فيه الى العثور على ما يثبت حكماً مسبقاً لديهم مفاده بأن التعدد والاختلاف في الثقافات البشرية يعكس اختلافاً طبيعياً وواقعياً بين الشعوب. بينما اعتبر آخرون ان الثقافات البشرية تصدر كلّها عن عقل بشري واحد، وأن الاختلاف يرجع الى الظروف الخارجية، وبالتالي فإنّ الثقافات البشرية لا تقبل المفاضلة، وهي تنمو وتزدهر من خلال الانتشار والتفاعل في ما بينها.
الا ان جموح ثقافة واحدة للهيمنة يدفع المجتمعات المعتدى عليها ثقافياً الى النكوص والارتداد الى الماضي، كردّ فعل دفاعي، ومن ذلك الصحوة الجديدة للثقافة العربية الإسلامية. ومن هنا كان تشديد الإعلان العالمي للتنوع الثقافي الصادر عام 2001 على حماية التنوع الثقافي والدفاع عنه.
في هذا السياق عرض المؤلف مقولة صدام الحضارات الوثيقة الصلة بإشكالية الثقافة، من خلال الأميركيين فوكوياما وهنتينغتون. والاثنان يبنيان على اطروحة فيبر التي تعتبر الثقافة الغربية وحدها حاملة قيم الحداثة والعقلانية. قال فوكوياما في «نهاية التاريخ» اذ ان ما نشهده اليوم ليس نهاية للحرب الباردة، بل هو نهاية للتاريخ ذاته، بمعنى ان تطور البشرية الأيديولوجي أدرك ذروته التي تتمثل في عولمة الديموقراطية الليبرالية الغربية، باعتبارها الشكل الراقي النهائي لأنظمة الحكم الإنساني.
بين التقدّم والتخلّف
ليس في عالمنا المعاصر، وفق فوكوياما، الاّ نمطان من المجتمعات: مجتمعات حديثة ومتقدمة وأخرى متخلفة بسبب رفضها قيم الحداثة من علمانية وديموقراطية، وهي قيم انفصلت عن أصولها التاريخية الغربية. وفي رأي المؤلف أنّ هيغل هو ملهم هذه الأطروحة. فقد قرأ في انتصار الثورة الفرنسية علامات على ان التاريخ البشري ادرك غايته ونهايته التي تبشر بنهاية الصراع وبمستقبل زاهر للبشرية.
وعرض المؤلف خطاب صدام الحضارات الذي يشكك في خطاب نهاية التاريخ ويتنبأ بأن مرحلة جديدة من التاريخ قد بدأت بالفعل، واصفاً اياها بمرحلة «صدام الحضارات وحرب الثقافات». وهذه المقولة لا يعود طرحها الى هنتنغتون كما هو شائع، بل الى المؤرخ الإنكليزي برنارد لويس 1916 الذي يذكر في كتاب له عام 2005 انه اول من اطلق فكرة «صدام الحضارات» مقدماً العلاقة المتوترة بين العالمين العربي الإسلامي، والغربي باعتبارها صراعاً بين حضارتين مختلفتين هما الإسلام والغرب. لكنّ لويس كان في الحقيقة الممهّد لهذه الأطروحة التي جددها هنتغتون، وأخرجها في حلة نظرية سياسية جديدة ومثيرة، مقدماً فرضيات حول المسارات المتوقعة للتاريخ المعاصر، وأهمها القول إنّ الصراع في عالم اليوم لن يكون أيديولوجياً ولا اقتصادياً، بل سيكون في المقام الأول حضارياً وثقافياً. وإذ صنف دول العالم تبعاً لحضاراتها وثقافاتها، اعتبر ان الحضارتين الصينية والعربية الإسلامية يستحيل اندماجهما في الغرب، ولهذا فإن الصراع في المستقبل سيكون بينهما وبين الغرب.
يتصدى المؤلف لخطاب حرب الثقافات كما تمثل في الفكر الغربي على يد لويس وفوكوياما وهنتينغون ليخلص الى ان هؤلاء جميعاً حددوا الصراع بين عالمين عربي اسلامي، وغربي انطلاقاً من عداء العرب والمسلمين للحداثة الغربية وقيمها، وهو عداء ذو طبيعة ماهوية متأصلة فيهم وليس بالإمكان التحرر منه الا بتحرير هؤلاء من معظم مكونات ثقافتهم. وفي هذا صيغة معاصرة للمانوية تتنافى مع مبدأ المثاقفة ومع الحوار بين الثقافات في احضان حضارة يفترض ان تكون كونية بالفعل.
كان احرى بخطاب صراع الثقافات في رأي المؤلف، ان يبحث عن اسباب العنف في الاستعمار الغربي وما جرّه من نكبات على الشعوب العربية والإسلامية، وفي مأساة الشعب الفلسطيني المغتصبة ارضه وثقافته بل وإنسانيته. ثمة صراع في عالم اليوم بين المجتمعات والدول والحضارات، الا ان ثمّة بديلاً حقيقياً تتزايد اهميته، وهو يتمثل في حوار الحضارات للتقريب بين الشعوب والتخفيف من آثار الصدام المفروض عليها باستمرار. هذا الصراع الفكري المسالم اصبح من واجب الجنس البشري خوض غماره من اجل البقاء.