…وجعل عبد الباري عطوان من القدس العربي مدرسة التنوع وحرية التعبير/ د. حسين مجدوبي

رئيس التحرير السابق لجريدة القدس العربي

 غادر الأستاذ عبد الباري عطوان الإشراف ورئاسة تحرير جريدة القدس العربي بعد قرابة ربع قرن من الزمان، استطاع من خلالها أن يؤثث حلبة الممارسة الصحافية العربية  بتجرية إعلامية نافذة الأثر، أخذت الرأي الإعلامي العربي إلى  تخوم بعيدة من العمق والتنوع في إدراك الواقع السياسي العربي والعالمي بتجلياته المتعددة والمفارقة أحيانا. وساهمت في تشكيل وعي عام نقدي  في الوقت الذي كانت فيه وسائل الإعلام العربية مدجنة بفعل القمع و الاستبداد أو بسبب تبعيتها لجهات نافذة متواطئة مع السلطات العربية.

وتسعف الدراسات الجامعية  المتبلورة في  مجال علوم الإعلام والسياسة  التي ترصد  دور الإعلام في  إحداث التحولات  السياسة والاجتماعية التي تلحق المجتمعات،  في استشراف  بعض من أوجه الدور العميق  الذي نحتته صحيفة القدس العربي على جدار الوعي السياسي والإعلامي العربي،  و زودت جهود التحول الاجتماعي والسياسي والثقافي  العربي بأسباب الفاعلية والتحقق.

ولعل  الجهود المعرفية للأكاديمي المروموق مارشال ماكلوهان  احتوى بعضها كتابه المشهور” مجرة غوتنبرغ”، تساعد بقدر كبير على تقييم الجهد الحقيقي لصحيفة القدس العربي، وفهم  نوعية المعرفة التي تنقلها وسيلة الإعلام، ونوعية المعالجة وحجم الارتباط بالواقع، وحتى يتم في المحصلة الإحاطة بحجم التأثير الحقيق التي تمارسه وسائل الإعلام في حياتنا الاجتماعية والسياسة والثقافية.

على ضوء هذا، فالغالب أن كل  عملية تحليل وتقييم لجريدة القدس العربي ستفضي إلى ترسيخ واقع مفاده أن هذه الصحيفة العربية إنما هي علامة مميزة في تاريخ الصحافة العربية، تحجز لنفسها مكانا في المراكز الثلاث الأولى  ضمن قائمة أفضل المنابر التي أنتجها تاريخ الإعلام العربي حتى يومنا هذا. وهذا التقييم لا يستند الى الانتماء الى القدس العربي بقدر ما يعتمد معطيات الواقع.

ومن خلال عملية تحليل مضمون الصحف العربية خاصة الكبرى ومنها حتى تلك الصادرة في المهجر، سيجد كل باحث صعوبة  في العثور في خريطة الاعلام العربي على منبر من صنف  القدس العربي تبنى بشكل جوهري  التنوع شعارا.  وتشهد  عمليا هذا،  القائمة الطويلة من أسرة وكتاب القدس العربي ذوو الانتماءات الاديولوجية والدينية والجغرافية المختلفة، من يسار ويمين، وإسلاميين ومسيحيين،وعرب وأمازيغ، وقوميين وقطريين.

 هذا التنوع  التي تفردت به القدس العربي كان يستعصي على باقي المنابر  الإعلامية العربية الأخرى  ما عدا قناة الجزيرة  خلال فترة بعينها الممتدة من  2002-2010 ، كانت الجزيرة إبانها اعتمدت وصفة القدس العربي منهجا إعلاميا، قبل أن تتخلى عنها في الربيع العربي خاصة خلال السنة الجارية وتصبح منحازة نسبيا.

الصعوبة نفسها سيواجهها كل باحث يحاول العثور في خريطة الإعلام في العالم العربي، على منبر فتح صفحاته الورقية ولاحقا الرقمية لكل الكتاب “المزعجين” لأنظمتهم، والثائرين على ممارسات الاستبداد والداعين للتحرر والمدافعين عن قيم المساواة . فقد وفرت جريدة القدس العربي، بفضل الأستاذ عبد الباري، هذا الفضاء/المتنفس مباشرة بعد تأسيسها سنة 1989، في وقت كان الإعلام ومازال بشكل كبير في وقتنا الراهن تحت سيطرة الأنظمة الحاكمة وممثليها من رجال أعمال.

حرية التعبير والتنوع شرطان أساسيان يجعلان كل وسيلة إعلام تلعب الدور الحقيقي المنوط بها والمتمثل في “نقل ونشر المعرفة وخلق رأي عام مدرك لدوره التاريخي”. توفر هذا التنوع وحرية التعبير علاوة على جودة المقالات في القدس العربي هو الذي جعل هذا المنبر يتميز عن باقي المنابر في الاعلام العربي، وجعله يلعب دورا رياديا في صنع رأي عام عربي واعي بالفترة التاريخية التي يجتازها.

لقد احتضن منبر القدس العربي، وبدون خطوط حمراء، كتاب الأطروحات السياسية الجريئة، واحتضن المنددين بالفساد وخروقات حقوق الإنسان، واحتضن الداعين للمساواة والديمقراطية، واحتضن المبدعين والمفكرين في شتى المجالات الأدبية والفنية. هذا المنتوج الإعلامي المتميز ساهم ويساهم في صناعة رأي عام عابر لحدود الدول القطرية العربية، يوحده حول قضايا رئيسية وجوهرية أقنعته بالمصير المشترك.

وساهمت شبكة الإنترنت في تعزيز قوة تأثير القدس العربي متجاوز بذلك الرقابة التي عانت وتعاني منها النسخة الورقية. وعليه، كل دراسة للربيع العربي إلا  و ستسحضر القدس العربي ضمن عوامل التغيير، وهو ما يجعل المنبر يتبوأ موقعه الرائد في تاريخ الإعلام العربي.

 من رحم هذه التجربة الإعلامية، يبرز عبد الباري عطوان،  صحفيا صاحب استراتيحية إعلامية تشبعت بمبادئ  التنوع وحرية التعبير والالتزام، مبادئ أرساها لمنبر جريدة القدس العربي، وفي الوقت ذاته عكستها مقالات الرأي التي كان يوقعها والافتتاحيات التي كان يعدها.

وخلال العقدين الأخيرين، لم يحدث أن اقترن صحفي وكاتب رأي عبر “زواج كاثوليكي” بقضايا العالم العربي مثل قلم عبد الباري عطوان. فقد عكس بجرأة حقيقية القضايا العربية وكان قريبا من نبض الشارع العربي، وصنع رأيا عاما حقيقيا بشأن قضايا مصيرية.

والأساسي في مقالات عبد الباري عطوان ليس هو تحقيق إجماع كبير حول الأطروحات والمواقف الواردة في مقالاته-وعمليا حقق ذلك في أغلب الحالات- بقدر ما أنه ألقى الضوء على قضايا مصيرية وجعلها محط نقاش وجدل في أجندة العرب ومكّن القارئ من مفاتيح لفهمها  على نحو أحسن ليبلور موقفه الخاص به، وقد يتفق القارئ معه أو يختلف حول مواقفه.

وهذا هو  أسمى وأرقى ما يمكن أن يحققه ويصبو إليه كاتب رأي، أي  القدرة على صناعة الرأي العام، وقد نجح عبد الباري عطوان في مسعاه هذا، مما جعله خلال العقدين الأخيرين كاتب الرأي الأشهر في العالم العربي، والأكثر مقروئية بل وايضا والأكثر متابعة  عندما يطل في قناة من القنوات الإخبارية.

و لعل امتلاك هذه الميزات  و المحافظة عليها  طيلة عقدين من الزمن لا تتحقق  إلا عند من لمس  الرأي العام الصدق في خطابه الإعلامي والوضوح في رؤيته السياسية، وقد لمسه عند عبد الباري عطوان.

نعم، غادر عبد الباري عطوان القدس العربي، ومغادرته خسارة في وقت يمر منه العالم العربي من فترة حساسة من تاريخه بعد اندلاع الثورات الديمقراطية، لكن الخسارة الكبرى والحقيقية ستكون إذا لم تحافظ القدس العربي على التنوع وحرية التعبير والالتزام المعرفي، خصال جعلت من هذا المنبر مدرسة حقيقية في تاريخ الإعلام العربي… نتمنى  له الاستمرارية كما نتمنى عودة عبد الباري الى الكتابة.

حسين مجدوبي، دكتور في علوم الإعلام

مقالات ذات صلة

Sign In

Reset Your Password