شكل مقتل قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني يوم 2 يناير الجاري حدثا كبيرا في العلاقات في الشرق الأوسط، ولكن لفترة محدودة بحكم اعتقاد الكثير من الخبراء في اندلاع حرب وشيكة لاسيما بعد الرد الإيراني. لكن الحرب لم تقع، ومن الصعب وقوعها، بل هناك مؤشرات بأنها لن تقع أبدا بسبب انعكاساتها الجيوسياسية على مستقبل مصالح طهران وواشنطن.
وتختلف الزوايا التي يمكن منها معالجة هذا الحدث، هل الانجرار وراء تحاليل سريعة تهيمن على وسائل الإعلام الراغبة في الإثارة لتحقيق نسبة عالية من القراءة أو المشاهدة، أو في المقابل الاعتماد على خبراء حقيقيين في جيوبولتيك يخضعون تحليلهم ووجهة نظرهم للأهداف العميقة والبعيدة التي ترسمها الدول التي لديها طموح أو تلك التي ترغب في الحفاظ على مصالحها وهيبتها؟ وعندما اغتالت الولايات المتحدة بصاروخ من طائرة بدون ربان “درون” قاسم السليماني هل كانت تدرك مسبقا محدودية الرد الإيراني وكيف؟
لا يمكن فصل ما يجري عن التطورات التي وقعت خلال الصيف الماضي عندما نجحت إيران في إسقاط طائرة بدون طيار وهي غلوبال هاوك التي تعتبر إحدى الطائرات الأكثر تطورا في سلاح الجو الأمريكي وتتجاوز قيمتها 300 مليون دولار، وتوجد أربع نسخ منها فقط واحدة لوكالة الناسا. وقتها اعتقد العالم في نشوب الحرب، لكن الحرب لم تقع لأن الولايات المتحدة كانت تدرك جيدا أنها اخترقت الأجواء الإيرانية، فهي في وضع غير قانوني أمام العالم. وكان البنتاغون يدرك عدم تردد طهران في الدخول في حرب طالما تعلق الأمر بهيبتها وسمعتها الدولية، لأن عملية خرق الأجواء يعد في القانون الدولي خرقا فظيعا.
وعندما اغتالت الولايات المتحدة الجنرال قاسم سليماني، نفذت العملية في العراق الذي تتواجد فيه عسكريا وليس في إيران. بل أكثر من هذ، لم تنفذ الاغتيال حتى في الأراضي السورية التي فيها تواجد كبير للقوات الإيرانية. وكانت حجتها في الاغتيال مشاركة الجنرال الإيراني في عمليات اغتيال جنود أمريكيين، ثم التخطيط لتدمير السفارة الأمريكية. وعملية تدمير السفارة في حالة تنفيذه يعني نهاية الوجود الأمريكي بشكل كبير في العراق. لم تقبل واشنطن بهذه الاستراتيجية ونفذت العملية الاستباقية دفاعا عن هيبتها وعن مستقبلها في الشرق الأوسط.
وردت إيران ردا مدروسا للغاية، فقد ضربت أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في العراق وهي عين الأسد، وعكس ما ذهبت إليه بعض التحاليل بتجنبها قتل الجنود الأمريكيين، يعتقد البنتاغون أن الصواريخ لا تفرق بين المباني والجنود، ولم يسقط أمريكيون بفضل قوة التحصينات في الملاجئ. وعسكريا، الأمر الملفت للنظر هو عدم تصدي صواريخ مضادة للصواريخ الإيرانية التي ضربت القاعة الأمريكية عين الأسد، وهو مصدر قلق للبنتاغون بشأن تقدم الصواريخ الإيرانية في دقة ضرب الأهداف. ومن ضمن الملاحظات التي غابت في الصحافة الدولية هو ضرب البنتاغون لقاسم سليماني في وقت سحب كل السفن العملاقة ومنها حاملة الطائرات ترومان من الخليج العربي نحو المحيط الهندي خوفا من رد إيراني تجاه البحرية الأمريكية.
مشروع دولة وأمة
سياسيا، الرد الإيراني السريع والذكي كان تعيين قائد جديد لفيلق القدس وهو إسماعيل قآني. ومن خلال القرار أرسلت إيران رسالة مفادها عدم تأثر مشاريعها بغياب الأشخاص بل هي مرتبطة بمشروع دولة وأمة، فقد غاب زعيم الثورة الخميني ولم تتراجع إيران في مشروعها، وغاب السليماني ولم يسقط فيلق القدس عكس دول أخرى في الشرق الأوسط يسقط الزعيم السياسي أو العسكري فتنهار المشاريع والدول القائمة على الفرد.
لماذا تجنبت الولايات المتحدة التصعيد العسكري؟ تاريخيا، لا تتردد واشنطن في الحروب التي تضمن الفوز بها، لكن في حالة المواجهة مع إيران، فالانتصار مضمون ولكن بتكلفة غالية للغاية. في المقام الأول، سقوط نسبة كبيرة من القتلى الأمريكيين وتدمير الصواريخ الإيرانية عدد من المنشآت العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط بل وربما حتى السفن العملاقة مما سيمس قوة الانتشار الحربي البحري الأمريكي في العالم. وفي المقام الثاني، تكلفة غالية في الحرب تعني من جهة، بداية النهاية الحقيقية للنفوذ الأمريكي سياسيا وعسكريا في الشرق الأوسط، لأن دول المنطقة التي ستكون وجهة للصواريخ الإيرانية لن تستقبل مستقبلا قواعد عسكرية أمريكية، ومن جهة أخرى يعني تقديم واشنطن الشرق الأوسط على طبق من ذهب إلى كل من روسيا وأساسا الصين، علما أنه رغم عدم استيراد واشنطن النفط من الشرق الأوسط يبقى استراتيجيا لضمان استمرار بيع النفط بالدولار أي ما يصطلح عليه البترودولار.
ولا تبدو إيران متحمسة كثيرا للحرب بل بدورها تتجنبها. وتدرك طهران أنها ستلحق خسائر جمة بالجيش الأمريكي، لكن في المقابل قد تحمل الحرب نهاية المشروع الإيراني في الشرق الأوسط. ذلك أن البنتاغون لن يتردد في شن حرب قاسية ضد إيران، أي السحق العسكري، وقد تكون الحرب الأكثر ضراوة مقارنة مع حرب الخليج الأولى والثانية وحتى مع الحرب العالمية الثانية. وهذا الانهيار سيؤدي حتما إلى تولي تركيا قيادة الشرق الأوسط وستصبح إيران دولة ثانوية بما في ذلك أمام العربية السعودية، وقد تحتاج إلى عقود طويلة أخرى لتحقيق نهضة صناعية-عسكرية واقتصادية. وعليه، يفضل قادة طهران التعاطي بذكاء مع أي توتر عسكري، وعدم التفريط في هيبة البلاد وعدم الانجرار إلى الحرب في أفق تحول إيران إلى قوة عسكرية سيكون من الصعب هزمها في أفق 2030.
وعليه، يمر الشرق الأوسط بلعبة دقيقة للمصالح الجيوسياسية، الجميع يرغب في الهيمنة والتحكم في صنع القرار لكن لا دولة ترغب في مغامرة عسكرية ذات نتائج غير مرتقبة، وهو ما يحدث لإيران والولايات المتحدة، رغم حدوث ثاني احتكاك عسكري، الأول كان في إسقاط طهران طائرة غلوبال هاوك، والثاني المرتبط باغتيال قاسم سليماني.