العمليات الإرهابية التي تعرضت لها العاصمة باريس وخلفت مقتل قرابة 130 شخصا هي امتداد لعمليات أخرى شهدتها فرنسا وأوروبا منذ تفجيرات 11 سبتمبر في الولايات المتحدة وكذلك في مناطق أخرى من العالم وأساسا الهند وروسيا. وتفجيرات باريس، من توقيع داعش، هي نقلة نوعية في الإرهاب العالمي لأنها نفذت بتقنية عمليات الكوماندوهات العسكرية، مما جعل الرئيس الفرنسي فرانسوا هولند يقول بتعرض فرنسا لهجوم من طرف جيش إرهابي.
عسكرة الإرهاب
وتفيد وزارة الداخلية الفرنسية بحدوث ست أو سبع عمليات إرهابية في وقت واحد من طرف قرابة ثمانية أشخاص أو أكثر انقسموا الى ثلاث مجموعات، وتحركوا بتقنيات متعددة منها حرب العصابات في المدن لكنها كلها ترمي الى إحداث أكبر حصيلة من القتلى والضحايا. ولهذا فقد استهدف الإرهابيون أماكن عمومية وفي توقيت واحد لخلق الصدمة وتشتيت عمل الأجهزة الأمنية.
وكان الهجوم على ملعب فرنسا وعلى عدد من المطاعم والمقاهي ومسرح باتكلان من طرف ثلاث مجموعات مرتبطة بتنظيم داعش. واستهداف الأماكن العمومية التي تكون عادة مليئة بالناس هو الذي يفسر هذه الحصيلة المرتفعة التي تعتبر أسوأ ما تعرضت له فرنسا منذ الحرب العالمية الثانية. وتبقى كذلك ثان أكبر اعتداءات إرهابية في أوروبا بعد اعتداءات مدريد يوم 11 يناير 2004 الأعنف بحصيلة 192 قتيلا، وبدورها كانت ضد منشآت عمومية، حيث استهدفت قطارات، ونفذتها مجموعات على شكل حرب العصابات.
والاعتداءات التي تعرضت لها باريس هي الحلقة الثالثة في مسلسل إرهابي يتصاعد بشكل خطير، وكانت الحلقة الأولى تلك التي نفذها محمد مراح ما بين 11 و19 مارس 2012 في مدينة تولوز وخلفت مقتل سبعة أشخاص، أربعة مدنيين وثلاثة عسكريين. ووقعت الحلقة الثانية من الاعتداءات ما بين 7 و16 يناير الماضي عندما نفذ الإخوان كواشي علميات إرهابية استهدفت المجلة الساخرة شارل إيبدو وقيام إرهابي إميلي كوليبالي نسق معها بالهجوم على متجر يهودي، وجرت العمليتان في باريس.
ولكن تفجيرات 13 نوفمبر 2015 تشكل قفزة نوعية في عمليات الإرهاب المستهدف للغرب لسببين رئيسيين، الأول وهو الطابع العسكري لعملية التنفيذ من طرف مجموعات متعددة اعتمدت حرب العصابات، وهو ما يفسر نزول الجيش الى العاصمة باريس لقدرته العالية على مواجهة عمليات من هذا النوع التي تتطلب عسكرة الشوارع للتأمين. والسبب الثاني هو منتهى السرية المتناهية التي عملت بها المجموعات الإرهابية رغم استنفار المخابرات الغربية ومنها الفرنسية في رصد وتتبع الإرهابيين والمشتبه بهم دوليا. وهذا يبين أنه مهما كانت المراقبة، تقع عمليات إرهابية، إما لسوء في التقدير الأمني أو ذكاء الإرهابيين لتجاوز مختلف إجراءات المراقبة. واستخباراتيا، هذه العملية تشكل تحديا خطيرا للمخابرات الفرنسية والغربية التي تجد نفسها متجاوزة بالضغط ومستوى الخطر، كما كتبت جريدة لوموند في عدد السبت الأحد.
فهذه المرة لا يتعلق الأمر بتقنية “الذئب المنفرد” وهو قيام شخص واحد بعملية تنفيذ الاعتداءات، كما حدث في حالة محمد مراح، وهي التقنية التي كانت تشغل بال الأجهزة الأمنية والمخابراتية لصعوبة رصد فرد واحد، بل يتعلق بمجموعة متكاملة على شكل كوماندو تابع لقوات خاصة لجيش معين وتنسيق بين الداخل والخارج. في الوقت ذاته، يستمر غياب التنسيق وتقييم الأخطار.
التفجيرات لم تكن مستبعدة
وإذا كانت هذه التفجيرات مفاجئة للرأي العام الفرنسي والدولي، فهي لا تعتبر مفاجئة لخبراء مكافحة الإرهاب والدارسين لهذه الظاهرة. ولعل العنوان الرئيسي الذي يمكن إطلاقه على هذه العمليات هو “عسكرة الإرهاب” بحكم تنفيذ مجموعات متدربة على مستوى عال جدا عمليات في وقت واحد وبأسلحة ومتفجرات واستهداف أماكن عمومية. وهذه التقنيات مختلفة عن إرهاب بعض الحركات الأوروبية ما بين الستينات وحتى السنوات الماضية، ويتعلق الأمر بتنظيمات مثل حركة إيتا الباسكية في اسبانيا والجيش الجمهوري الإيرلندي وتنظيم “العمل المباشر” الفرنسي و”بادر ماينهاف” الألماني، وهي حركات كانت عموما انتقائية في أهدافها وليست عشوائية.
وفي تصريحات للقناة التلفزيونية BMTV يومه السبت 14 نوفمبر الجاري قال فدريك غالواز، وهو رئيس سابق لقوات التدخل الخاصة التابعة للدرك الفرنسي “كنا ننتظر هذا النوع من العمليات الإرهابية الشاملة نظرا لحدوث عمليات متشابهة في السابق في أماكن أخرى من العالم”.
وعمليا، الاعتداءات الإرهابية التي تعرضت لها باريس وقعت في أماكن أخرى من العالم وكلها تحت عنوان “استهداف أماكن عمومية” للتسبب في أكبر رقم من الضحايا. في هذا الصدد، فالهجوم على مسرح باتكلان الذي خلف أكثر من 80 قتيلا، ما هو إلا تكرار لعملية الهجوم على مسرح إشكيريا في العاصمة موسكو يوم 23 أكتوبر 2002 من طرف جيش إرهابي مكون من شياشنيين وخلفت مقتل 129 شخصا.
وتلتقي هجمات باريس كذلك مع تلك التي تعرضت لها مطاعم ومقاهي في الدائرة العاشرة في باريس في طريقة التنفيذ مع العمليات الإرهابية التي شهدتها مدينة بومباي الهندية يوم 29 نوفمبر 2008 وخلفت مقتل 195، حيث قام مسلحون بالهجوم على فنادق ومطاعم فاخرة وفتحوا النار بشكل عشوائي.
ويجهل الظروف التي وقعت فيها تفجيرات ستاد فرنسا في باريس حيث كانت تجري مباراة لكرة القدم بين المنتخب الفرنسي ونظيره الألماني وبحضور فرانسوا هولند، ولكن يبدو أن رغبة الإرهابيين هوتنفيذ تفجير داخل الملعب، ولم ينججوا في ذلك. وكانت تقارير أمنية ومخابراتية بريطانية واسبانية قد تحدثت عن عمليات مشابهة جرى إفشالها في الماضي.
في الوقت ذاته، يؤكد خبراء فرنسا انتظارهم عمليات إرهابية من هذا النوع وذات تقنية عالية لأسباب متعددة منها أساسا، في المقام الأول، تساهلت الدول الأوروبية مع شبابها المسلم للتوجه الى سوريا بعد اندلاع الربيع العربي، وذلك لمحاربة نظام حزب البعث بزعامة بشار الأسد. وبينما لا يشكل مسلمو الغرب حوالي 1،5% من مسلمي العالم، نجدهم يشكلون ما بين 20% الى 25% من مقاتلي التنظيمات الإرهابية مثل داعش في سوريا. وهكذا، قد وجد هذا الشباب في سوريا الخاضعة لتنظيمات مثل داعش والنصرة المجال لتلقي تدريبات عسكرية عالية مثل صنع المتفجرات وفتح النار لتنفيذ عمليات إرهابية ضخمة. والآن، بدأ هذا الشباب يعود الى الدول الغربية، مما يشكل قنابل قابلة للانفجار في أي لحظة.
وفي المقام الثاني، ارتفاع تنفيذ شباب أوروبي ومنهم فرنسيين لعمليات انتحارية في سوريا والعراق. وحول هذا الموضوع، كان الصحفي البارز في جريدة لوفيغارو كريستوفر كورنفين قد قال باحتمال تعرض فرنسا لعمليات انتحارية بعد تحقيق أجراه كشف عن تنفيذ تسعة فرنسيين لعمليات انتحارية في سوريا والعراق. ولا يتعلق الأمر بفرنسيين من جذور عربية وإسلامية بل بفرنسيين اعتنقوا الإسلام. ومن هذه الأسماء كفين شاسين الذي نفذ عملية إنتحارية في العراق خلال مايو الماضي. وبيير شولي الذي نفذ عملية انتحارية في العراق خلال فبراير الماضي، ونيكولاس بونس الذي نفذ عملية انتحارية في سوريا سنة 2013، وهناك ست حالات أخرى لفرنسيين نفذوا عمليات انتحارية.
البعد الاستراتيجي لتفجيرات باريس
لا يمكن فصل العمليات الإرهابية التي تتعرض لها أوروبا والغرب عموما بل وحتى بعض الدول العربية مثل لبنان عن الملف السوري بتشعباته المختلفة سياسيا وعقائديا وعسكريا. وسيترتب عن اعتداءات باريس عدد من النتائج ذات البعد الاستراتيجي.
في هذا الإطار، سترفع الدول الغربية من تنسيقها الأمني وسط القارة الأوروبية وخارجها بشكل لم يسبق له مثيل، وذلك لأن الخطر قادم من الخارج، من مناطق مثل سوريا والعراق وليبيا. ولا يمكن استبعاد قيام كوماندوهات أوروبية بعمليات حربية دقيقة ضد داعش في سوريا خلال الأسابيع المقبلة.
والنتيجة الثانية التي ستترتب عن هذه الاعتداءات هي انضمام الدول الأوروبية الى الاستراتيجية الروسية في مكافحة داعش، وبالتالي دعم غير مباشر ولكن جلي لنظام بشار الأسد.
وأخيرا، فالبعد الذي اتخذه الإرهاب الديني المرتبط بالتطرف الاسلامي وتورط شباب أوروبي من جذور عربية ومعتقد إسلامي، سيطرح، وبدأ يطرح، إشكالية التعايش بشكل مقلق هذه المرة في فرنسا ومجموع أوروبا لأن تفاقم مثل هذه الاعتداءات يولد كراهية المسلم وردود فعل قد لا يتم التحكم فيها.