تعيش الولايات المتحدة صراعا ضد الساعة لمنع تحول الصين إلى دولة كبرى تقود العالم أو على الأقل تقف ندا عسكريا واقتصاديا وسياسيا مع واشنطن، وتراقب بقلق كبير الانتشار الصيني في العالم. ومن المناطق التي تقلق واشنطن التمدد الصيني في منطقة أمريكا اللاتينية، الحديقة الخلفية للولايات المتحدة.
في هذا الصدد، كان خبراء الولايات المتحدة ومنذ نهاية الثمانينات يحذرون من إيقاع تطور الصين السريع. وطالبوا، ومنهم المفكر الراحل صامويل هانتنغتون، بضرورة تطبيق سياسة احتواء سريعة لتفادي المواجهة. غير أن الرئيس الأمريكي وقتها بيل كلينتون لم يأخذ بعين الاعتبار هذه التحذيرات، ومال إلى نظرية أخرى قللت من نمو الصين، وبالتالي منح بكين خلال منتصف التسعينات «الأفضلية التجارية» أي استقبال الاستثمارات الأمريكية وتطبيق نسبة ضرائبية محدودة على السلع الصينية في الأسواق الأمريكية. منذ ذلك التاريخ قفزت الصين القفزة النوعية في الاقتصاد باستقبال استثمارات أمريكية ضخمة والرفع من صادراتها نحو العالم برمته.
ورغم سياسة العداء التي تطبقها واشنطن بشكل علني منذ رئاسة دونالد ترامب، إلا أنه أصبح من الصعب احتواء الصين في الوقت الراهن. وبدأت واشنطن تستعد للمواجهة التي تعني تأخير ريادة بكين للعالم بضعة عقود. وتواجه واشنطن الصين في مختلف مناطق العالم للحد من نفوذها، ويكفي قراءة القمة الأمريكية-الأفريقية التي احتضنتها واشنطن خلال الأسبوع الجاري، وكيف رفع الرئيس جو بايدن شعار مواجهة الصين في القارة السمراء. وتحظى منطقة باهتمام أكبر من المناطق الأخرى وإن كانت بعيدة عن الأضواء عكس الشرق الأوسط مثلا، وهي أمريكا اللاتينية. ومن ضمن المنعطفات الكبرى لهذا الصراع، هو ما ترتب عن جائحة كوفيد في رؤية أمريكا اللاتينية للطرفين، ثم المواقف من الحرب الأوكرانية-الروسية. وتتجلى أهمية الصراع الأمريكي-الصيني حول أمريكا اللاتينية في عوامل متعددة وهي:
في المقام الأول، تعتبر أمريكا اللاتينية الحديقة الخلفية للولايات المتحدة تاريخيا ومنذ إرساء عقيدة مونرو في الربع الأول من القرن التاسع عشر. ويعني تغلغل الصين إضافة إلى روسيا في المنطقة الاقتراب من الحدود الجغرافية الأمريكية، وهنا مكمن التحدي والخطر. وعليه، كما تواجدت واشنطن في كوريا الجنوبية والفلبين واليابان منذ عقود، وهي دول متاخمة للصين، الآن هذه الأخيرة تطبق سيناريو مماثل على الأقل تجاريا في الوقت الراهن. ولا أحد سيمنع من التطور نحو وضع عسكري، بمعنى منح بعض دول المنطقة الصين قواعد عسكرية، إذ أن العلاقات الدولية تفرز أوضاعا وسيناريوهات غير منتظرة، ومنها الحرب الروسية-الأوكرانية وسط أوروبا. وتاريخيا، طبقت الولايات المتحدة فيتو بيع السلاح لدول المنطقة مع بعض الاستثناءات، حتى تبقى الحديقة الخلفية بدون قوة عسكرية ولو إقليمية. وبدأت الصين تنفتح عسكريا وتسير في مسار روسيا ببيع أسلحة متطورة إلى هذه الدول ومنها فنزويلا والبرازيل والأرجنتين نسبيا، وبيع صفقات الأسلحة قد تأتي المناورات مستقبلا وقد تليها قواعد عسكرية. وتتوفر الصين على قاعدة للاتصالات في الأرجنتين، واشترى هذا البلد مقاتلات إف سي 1 الصينية المتطورة. ويبدو أن الأرجنتين تريد علاقات عسكرية مع بكين مستقبلا لخلق توازن في مواجهة بريطانيا بسبب النزاع حول جزر المالوين. وإذا منحت الأرجنتين الصين فرصة عسكرية، ستتبعها دول المنطقة الأخرى. ويقول الخبير العسكري روبر إيفان إليس بأن الأرجنتين بعيدة عن الأراضي الأمريكية، لكن الحضور الصيني هناك هو مصدر قلق.
في المقام الثاني، من ضمن المظاهر التي يتجلى فيها الصراع حاليا هو المجال السياسي. خلال السنوات الأخيرة، أصبحت دول المنطقة قريبة في العلاقات الدولية من الصين وروسيا بدل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. فهي تتبنى رؤية قريبة من بكين لقضايا النزاعات الدولية في الشرق الأوسط، وترفض مسايرة واشنطن في ملفات كثيرة منها تطبيق العقوبات على روسيا بسبب حربها ضد أوكرانيا، وترفض قطع العلاقات مع إيران. كما ترفض مسايرة واشنطن في مخططاتها في ملف تايوان. ومن المنتظر ارتفاع التنسيق السياسي بحكم عودة اليسار إلى السلطة في أمريكا اللاتينية في دول مثل كولومبيا التي كانت تاريخيا مع الولايات المتحدة، والأمر نفسه مع التشيلي، بينما يشكل عودة حزب العمال البرازيلي بزعامة لولا دا سيلفا إلى رئاسة البلاد فرصة أخرى للتمدد الصيني في المنطقة بعدما كان الرئيس المؤقت بولسونارو قد حاول عرقلة التطور مع بكين تطبيقا لمطالب صديقه دونالد ترامب عندما كان في السلطة.
في المقام الثالث، ما بين سنة 2020 إلى 2021 ارتفع التبادل التجاري بين الصين وأمريكا اللاتينية بمعدل تاريخي لا سابقة له 41 في المئة، وأصبح 451 مليار دولار. ولم تؤثر الجائحة أو الخلل في سلاسل التوريد عالميا في عملية التبادل التجاري هذه، وهذا يبرز وفق عدد من الخبراء أن دول أمريكا اللاتينية ترى في الصين مصدر فرص اقتصادية جديرة بالاهتمام ولا تعوض في ظل التطورات الجارية. وتحولت الصين إلى الشريك الأول أو الثاني لكل دول المنطقة بفضل التبادل التجاري والاستثمارات لاسيما في المناجم والطاقة والقروض التي منحتها بفوائد ضعيفة مقارنة مع صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي. وحول هذه النقطة الأخيرة، تؤكد مجلة «سيبال» في تقرير لها حول الاستثمارات والقروض في أمريكا اللاتينية أن ما بين 2005 إلى 2019 قدمت الصين 137 مليار دولار كقروض لأمريكا اللاتينية، ونسبة القروض ترتفع بالتوازي مع ارتفاع النفوذ الصيني.
وباستثناء المكسيك التي تربطها روابط كبيرة بالاقتصاد الأمريكي، قد تزيح الصين الولايات المتحدة كشريك اقتصادي لأمريكا اللاتينية. وعمليا، التبادل التجاري القوي والاستثمارات المرتفعة تعزز من العلاقات السياسية والعسكرية.
لا تعتبر أمريكا اللاتينية بالنسبة للصين منطقة عادية ترغب في نشر نفوذها السياسي والاقتصادي مثل باقي المناطق مثل أفريقيا مثلا، بل تعتبرها منطقة استراتيجية بكل المقاييس. فجيوسياسيا، أمريكا اللاتينية بالنسبة للصين تعادل منطقة جنوب شرق آسيا للولايات المتحدة. التواجد الأمريكي في هذه المنطقة يجعلها قريبة من الحدود الجغرافية للصين سواء عسكريا أو اقتصاديا ثم سياسيا. وتحاول الصين تطبيق السيناريو نفسه، ونجحت اقتصاديا بشكل كبير، ونسبيا سياسيا، بينما لم تنجح عسكريا حتى الآن لأن الصين لم تنتقل بعد بشكل جدي إلى مخطط التوفر على قواعد عسكرية في العالم ومنها أمريكا اللاتينية. وتستفيد الصين من تضارب المصالح بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية، حيث لا يتصرفان ككتلة غربية موحدة. بينما لا تعاني من منافسة روسية، بل أن موسكو تساعدها في التغلغل في هذه المنطقة.