تمر العلاقات بين الرباط وباريس بأزمة كبيرة تجاوزت السنة حتى الآن، وهي من أطول الأزمات خلال الثلاثة عقود الأخيرة، الأمر الذي يجعل هذه العلاقات الثنائية بين البلدين التي كانت توصف دائما بالمثالية بأنها أصبحت غير مثالية في الوقت الراهن. وسبب هذه الأزمة هو صعوبة استيعاب البلدين بضرورة بناء العلاقات على أسس جديدة مختلفة عن تلك الأسس التي تحكمت فيها منذ عقود.
وعاشت العلاقات سنة 2014 توترا كبيرا على خلفية قرار القضاء الفرنسي محاولة محاكمة مدير المخابرات المدنية في المغرب عبد اللطيف الحموشي، ونتج عن احتجاج المغرب الأزمة، غير أنها لم تستغرق سوى شهور قليلة وانتهت باتفاقيات في المجال القضائي بين البلدين لتجاوز سوء التفاهم. لكن هذه المرة، يأتي الاحتجاج الصامت من فرنسا وليس من المغرب، ورغم الصمت، يعلم الجميع أن السبب الرئيسي هو فرضية تجسس المغرب على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بواسطة البرنامج الإسرائيلي بيغاسوس، واعتبرت باريس ذلك مسا بأمنها القومي وكرامتها لاسيما وأن العملية صادرة عن دولة يعتقد أنها حليفة من الدرجة الأولى لا يوجد بينهما صراع دولي.
ونتيجة هذه الأزمة، فقدت العلاقات الثنائية الكثير من جودتها منذ صيف السنة الماضية، ومن عناوين ذلك توقف تبادل الزيارات بين مسؤولي البلدين، ثم عدم تنفيذ فرنسا أي مبادرة من وسط الاتحاد الأوروبي تجاه المغرب بمناسبة رئاستها لهذا التجمع ما بين يناير ويونيو الماضيين، عكس ما فعلته خلال توليها الرئاسة الدورية في مناسبات سابقة. في الوقت ذاته، تتبنى فرنسا سياسة صارمة غير معهودة تصل الى “التعسف المؤسساتي” بشأن التأشيرات الممنوحة للمغاربة. وتتبنى موقفا ضبابيا في نزاع الصحراء بعدما كانت حتى الأمس القريب أكبر داعم لمقترح الحكم الذاتي الذي تقدم به المغرب حلا للنزاع. وكان الملك محمد السادس في خطاب “ثورة الملك والشعب” يوم 20 أغسطس/آب الماضي بحديثه عن ضرورة وضوح مواقف الشركاء التقليديين والجدد في ملف الصحراء، يقصد فرنسا بالشريك التقليدي وإسرائيل بالشريك الجديد.
وتتحدث تيارات سياسية وإعلامية مغربية عن وجود مؤامرة فرنسية ضد المغرب، وتفسر ذلك بقلق باريس من توسع الشركات المغربية في إفريقيا ومنافستها للشركات الفرنسية. بل ونشرت جريدة مغربية “هسبريس” منذ أيام وثائق يفترض أنها “سرية” تتهم المخابرات الفرنسية بالتخطيط لضرب صورة مسؤولين مغاربة لديهم ممتلكات في الأراضي الفرنسية وقاموا بتهريب أموال لتبييضها في هذا البلد الأوروبي. وبغض النظر عن صحة الاتهامات المغربية من عدمها والصمت الفرنسي المريب المرافق بإجراءات تعسفية، يبقى وضع العلاقات الثنائية حاليا هو أزمة شائكة انعكست تأثيراتها سلبا لأول مرة على المواطنين المغاربة بسبب قضية التأشيرات، ثم سلبا لأول مرة على موقف باريس من نزاع الصحراء.
أمام هذه الأزمة الشائكة التي ستجد حلا لكن بعد تآكل الجودة التي ميزت العلاقات، يحتاج البلدان إلى استيعاب التطورات الجيوسياسية الحاصلة في العالم خلال السنوات الأخيرة وتسارعت مع الحرب الروسية ضد أوكرانيا، التي من نتائجها حصول تغيير في العلاقات الدولية بين الأمم ومنها العلاقات المغربية-الفرنسية. ويمكن تلخيص نتائج هذه التغيرات التي تتحكم في الأجندة الجديدة لكل الدول في: “المصالح تفرض أحيانا تغيير الحلفاء”. في هذا الصدد، المغرب مطالب باستيعاب ما يلي:
في المقام الأول، لا يمكن لفرنسا تفضيل المغرب دائما على الجزائر في منطقة المغرب العربي-الأمازيغي لأن فرنسا تبحث عن مصالحها وخاصة في وقت تحولت فيه الطاقة الى محدد رئيسي لجودة العلاقات الثنائية بين الدول، وتتوفر الجزائر على الغاز والبترول، كما تسعى الشركات الفرنسية إلى التموقع مجددا في السوق الجزائرية بعدما فقدتها لصالح الصين وتركيا وإيطاليا.
في المقام الثاني، لم تعد توجد في فرنسا طبقة سياسية لديها ارتباط وثيق بالمغرب وتتولى الحديث باسم مصالحه في العاصمة باريس وتدافع عن أجندته وتسعى الى حل الأزمات. إذ من الصعب ظهور رئيس يتعاطف بشكل كبير مع الرباط كما كان الشأن مع الرئيس الراحل جاك شيراك. في الوقت ذاته، عجز المغرب على نسج علاقات مع الطبقة السياسية الجديدة سواء في اليمين أو اليسار.
في المقام الثالث، ضرورة إبقاء المشاكل التي تطفو الى السطح في إطارها الحقيقي والبحث عن حل لها بعيدا عن التأويلات الصعبة القبول ومنها وجود مؤامرة فرنسية ضد المغرب في وقت يوجد فيه الملك محمد السادس في باريس منذ أكثر من ثلاثة أشهر. لا يمكن الحديث عن منافسة مغربية للشركات الفرنسية في وقت مازال المغرب يتوصل بمساعدات مالية كبيرة سنويا من فرنسا ويقوم جزء هام من اقتصاده على الاستثمارات الفرنسية، إذ لا يوجد بلد في البحر الأبيض المتوسط قام برهن اقتصاده بدولة أخرى مثل ارتهان الاقتصاد المغربي بنظيره الفرنسي.
وبدورها، تبقى فرنسا مطالبة باستيعاب المتغيرات في علاقاتها بالمغرب بعيدا عن نظرة الماضي ونجد في هذا الصدد:
أولا، لا يمكن للمغرب منح فرنسا الأفضلية التامة والدائمة في المجال الاقتصادي ومنها منح الخط الثاني الخاص بالقطار السريع الرابط بين مدينة مراكش وأكادير جنوب البلاد، بل من حقه البحث عن شركاء جدد للحفاظ على مصالحه وخاصة مع الدولة الصاعدة الصين التي تريد تشييد خط القطار السريع. وبعبارة أوضح: المغرب ليس حديقة خلفية دائمة لفرنسا اقتصاديا.
ثانيا، استعادة العلاقات مع الجزائر لا يجب أن يكون على حساب العلاقات مع المغرب، بل بضرورة بحث فرنسا عن توازن في علاقاتها في شمال إفريقيا بعيدا عن سياسة المحاور المؤقتة وتغيير الحليف حسب السياقات والظروف.
ثالثا، لا يمكن لباريس اعتبار مبادرات المجتمع المدني المغربي مثل الحديث عن ضرورة فتح ملف جرائم الاستعمار الفرنسي هو استعداء ضد مصالح فرنسا بل هو نتاج وعي عالمي من طرف الشعوب التي خضعت للاستعمار ضد القوى التي نهبت وسرقت وقتلت شعوب أخرى باسم الحضارة.
رابعا، فرنسا كدولة ديمقراطية لا يمكنها اللجوء الى مناورات رخيصة لمعاقبة المواطنين المغاربة مثل حالة الحرمان من التأشيرات، فهذا النوع من السياسة الانتقامية تتميز به الأنظمة الدكتاتورية التي يغلب عليها رد الفعل السريع والعنيف واللاعقلاني وتبحث عن انتصارات وهمية أمام شعوبها.
عموما، العلاقات المغربية-الفرنسية أمام أزمة بدلالات المنعطف، منعطف يتطلب ضرورة مفاهيم جديدة مختلفة عن تلك التي تحكمت فيها طيلة العقود الماضية.