لا يوجد ثمن يكفي يكافئ به الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة ومحيطه بعض القنوات التلفزيونية الخاصة، لقاء الخدمة الهائلة التي قدمتها له وكانت أحد الأسباب المؤدية لنتائج انتخابات الخميس الماضي.
تأتي على رأس هذه المحطات التلفزيونية، قناة النهار، التي برعت في تأييد الرئيس بوتفليقة وثابرت على وفائها له ولم تتزعزع قيد أنملة. ضرب تلفزيون النهار بأخلاقيات العمل السياسي والمهني وما يتفرع عنها من قيـَم ومُثُل وشعارات ونظريات، عرض الحائط، وداس عليها بإصرار شعاره: الغاية تبرر الوسيلة.
بالمقابل، ومن حيث الوفاء أعطى تلفزيون النهار درسا لمن أراد أن يتعلم. لقد ظل وفيا لبوتفليقة على الرغم مما قيل عنه وفيه، ومن الانتقادات التي وُجهت له وهي كثيرة وصائبة في معظمها.
من حيث الجرأة على الدعاية والرغبة في التأثير، أثبت تلفزيون النهار أنه مدرسة جديرة بالمتابعة بارعة في تدمير الخصم.
تمكنت بعض التلفزيونات الخاصة من أن تقدّم لبوتفليقة في ثلاثة أسابيع خدمة جليلة ما كان التلفزيون الحكومي سيقدمها له في خمس سنوات. وتفوقت بجرأتها وسرعتها على التلفزيون الحكومي المرتبك والبطيء في دعمه لبوتفليقة، فأعلنت ‘النهار’ فوز بوتفليقة قبل انتهاء فرز الاصوات بفاصل زمني طويل. بعض القنوات التلفزيونية لم تكتف بتأييد بوتفليقة بل أصرّت على تدمير خصمه علي بن فليس، الشخص والمعارض السياسي، بطريقة جريئة وقدرة مذهلة لا مبالغة لو قال المرء إنها فاجأت محيط بوتفليقة ذاته.
لم يكن هناك أدنى شك في ان بوتفليقة هو الفائز في الانتخابات منذ أعلن ترشحه على لسان رئيس وزرائه عبد المالك سلال. كان السؤال فقط حول حجم الفوز الذي يستحقه أو يجب أن يـُمنح له. وعليه، حقَّ القول إن نصر بوتفليقة لم يكن يقتضي تدمير بن فليس. بيد أن التدمير تقرر لأن الرجل تجرأ على الترشح ضد بوتفليقة وصدّق أنه قد يفوز عليه.
لاحظ الجزائريون في الأيام الثلاثة الأخيرة من الحملة الانتخابية أن استهداف خصوم بوتفليقة انتقل من مستوى الدعاية للرئيس إلى ترهيب المجتمع وترويعه وتشويه خصومه بكل الطرق. فاستعانت بعض القنوات التلفزيونية بصور أنصار الجبهة الإسلامية للإنقاذ يتظاهرون بشوارع العاصمة سنة 1990 يرفعون شعارات: لا ميثاق لا دستور.. قال الله قال الرسول. وبصور علي بلحاج، نائب رئيس جبهة الإنقاذ يتحدث عن السلاح واستعداده لاستعماله.
كما استعانت بصور المواجهات والخراب في مصر وتونس وليبيا، مرفوقة بخطاب الفوضى والرعب وفقدان نعمة الاستقرار. استـُعملت الصور بإصرار كبير، خارج سياقها تماما، ومن دون حاجة مهنية أو ضرورة سياسية. استُعملت تلميحا وتصريحا متلازمة مع بن فليس وخطاباته السياسية وتحركاته وحتى تعابير وجهه ويديه.
هناك من قرأ هذه الحالة على أنها ارتباك اصاب معسكر الرئيس فبدا في إطلاق نار أذرعه الإعلامية، عشوائيا. لكن كان يجب قراءة الحالة على أنها تصعيد في ربع الساعة الأخير من أجل الضربة القاضية. التُقطت بدقة كل زلات بن فليس مثل ‘أيها الولاّة لديكم عائلات خافوا عليها’، ومثل ‘أولاش السماح’ (لن نسمح)، ومثل ‘ما نسكتش.. عندي جيش بالملايين ورائي’ وغيرها. واستثمرت فيها المحطات ‘العدوّة’ بلا توقف أو ملل حتى بعد انتهاء التصويت، والقاصي والداني على يقين أن بن فليس ليس رجل عنف وفوضى.
تحولت أخبار هذه القنوات التلفزيونية إلى بيانات مناوئة لعلي بن فليس بسبب ومن دونه. في أحد أخبار تلفزيون النهار، ورد أن ‘الشرطة بولاية تلمسان تلقي القبض على مروجي مخدرات أحدهم مؤيد لعلي بن فليس′. كما بـُثَّ كمٌ هائل من الأخبار عن انشقاقات في حملة بن فليس، يحتاج المرء إلى قدرة على غربلتها وحصانة لقراءتها بتجرد.
طيلة يوم الاقتراع ظلت الأرقام تتردد في أسفل شاشات بعض القنوات الخاصة تفيد بتقدم بوتفليقة عن بن فليس بفارق هائل. ومع إغلاق صناديق الاقتراع وبدء فرز الأصوات، أعلنت هذه القنوات فوز بوتفليقة دون انتظار إعلان رسمي. في اللحظات ذاتها كانت هذه القنوات، في مقدمتها النهار، تضرب معنويات أنصار بن فليس واصفة إياه بالمرشح المنهزم.
وبالطريقة ذاتها تصدّت هذه المحطات التلفزيونية، بلا رحمة، لمن تجرأوا على إعلان خصومتهم للرئيس بوتفليقة.
أول الضحايا كانت حركة ‘بركات’ (يكفي) التي نالها نصيب وافر من القدح والذم والتقريع في حق زعماء هذه الحركة فردا فردا، بالإسم والصورة.
استثمرت هذه القنوات بقوة في المؤامرة الخارجية والعمالة للمغرب، فصوّرت ‘بركات’ شيطانا رجيما يجلب الخراب للبلاد من الخارج. هل في الأرض عاقل يصدّق أن مستشار القصر الملكي أندريه أزولاي يتآمر على الجزائر من خلال اتصالات مع مؤيدين لحركة بركات؟ لماذا لا يتآمر عليها مع المخابرات الفرنسية أو الإسرائيلية أو مع باراك أوباما؟ منذ متى أصبح الفيلسوف الفرنسي برنار هنري ليفي عدوا للجزائر وهو الذي استضافه النظام الجزائري في التسعينيات وكرّمه وأوكل له مهمة دحض مقولة ‘من يقتل من’ في المحافل الأوروبية ووسائل الإعلام الغربية؟ ومنذ متى كانت الجنسية المزدوجة جريمة وعدة وزراء في أكثر من حكومة جزائرية يحملون جنسيات غربية وعائلاتهم؟
على الرغم من ذلك، أصرّت بعض القنوات الخاصة على الاستثمار في هاتين التهمتين إلى حد الإبتذال. ويبدو أنها حققت بعضا ما سعت إليه.
كانت الانتخابات الرئاسية الأخيرة محكّاً حقيقيا لتجربة الإعلام التلفزيوني الخاص، الوليدة بالجزائر، كشفت عن خبايا وحدود ما يمكن أن يصل إليه الأمر في المستقبل إذا ما طرأ طارئ في رأس السلطة. كانت درسا في الواقعية والإصرار يستفيد منه فيلسوف إيطاليا نيكولو ماكيافلي (1469 ـ 1527م)!
مرت الجزائر بتجربة مماثلة مع الصحف المطبوعة في العقدين الماضيين، لكن ليس بذات الوقع والتأثير نظرا لدرجة الأمية في المجتمع ومحدودية انتشار الصحف.
نحن اليوم أمام وضع مختلف مخيف. فالتلفزيون، لقطاعات كبيرة من المجتمع الجزائري، هو المصدر الوحيد للمعلومة وللثقافة ولكل شيء. كثير من الناس يتابعون التلفزيون ثم يخرجون إلى الشارع والحارات الشعبية لمناقشة ما شاهدوا وسمعوا، من دون نضج كاف وبلا حد أدنى من الحصانة المعرفية. يجب أن يدرس الجميع، السلطة والمجتمع بكل مكوناته، بهدوء التجربة التلفزيونية في انتخابات الخميس ويدركوا أنها لم تكن نصرا على نصر. هناك جرس إنذار يجب أن يُدق خوفا على الجزائر.
أمنيتي أن تكون هذه التجربة، تلفزيونيا وإعلاميا، الاستثناء لا القاعدة لأنها وضعتنا في حرب بداعي الاستقرار.
ميكيافللي يتعلم من الجزائريين! توفيق رباحي
صورة مركبة على مستوى الألوان للرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة