محمد المسعودي يَلِـج الكونَ القصصي بمجموعة: سانشو بانشا يدخل المدينة

صورة مركبة لغلاف الكتاب

عرف الدكتور محمد المسعودي باحثاً أكاديمياً جاداً وعميقاً. استهوته ذات يوم كتابات أبي حيان التوحيدي فأعدتْه تأملاتُه الصوفية، وأفكاره القلقة، وتخصص فيه خلال دراسته الجامعية، بدءاً من رسالة الإجازة إلى أطروحة الدكتوراه. كما عرفت المسعودي شاعراً، ودارساً مهتماً بالفن الأمازيغي شعراً وغناءاً، وناقداً روائياً متابعاً، وكاتباً للقصة القصيرة التي نشر نماذج منها في مجلات وجرائد عدة. وها هو اليوم يقدم للقراء نخبة من تلك القصص، بواسطة ‘منشورات اتحاد كتاب المغرب’ (الرباط 2013).
***
أن تقرأ قصة مفردة لكاتب، منشورة في مجلة أو جريدة ليس كمثل قراءتها مع قصص أخرى إضمامةً. ذلك أن المبدع ما أن يتجرأ على جمع قصصه بين دفتي كتاب يكون قد اقترح عليك ‘رؤيته’ أو ‘تصوره’ للحياة، أو على الأقل، أن يطلعك على أسلوبه في الكتابة وخططه في تكوين القصص وتشكيلها. ذاك ما حصل لي مع مجموعة محمد المسعودي الأولى ‘سانشو بانشا يدخل المدينة’. فقد تسللت إلى عالم هذه القصص وهي مجموعة وكأني أتسلل إلى عالم استيهامي، من دون خريطة، عالم يُفتَرض فيه القدرة على تشريح ‘رؤيا’ صاحبه، أو على الأقل بعض جوانبها. ولقد اتضح لي، بعد القراءة التفصيلية لكل قصص المجموعة أن المسعودي بصدد استشراف ملامح ‘رؤيا’ إبداعية من شأنها أن تميز أسلوبه في الكتابة، ونظرته إلى الحياة ذاتها. أي أنه بصدد البحث عن ذاته، وشخصيته الفنية التي ستُرسَّخُ، لا شك، في مجاميعه القادمة.
***
أفترض أن نصوص هذه المجموعة يمكن إدراجها في مجال التجريب القصصي القصير؛ بكل ما في كلمة ‘تجريب’ من دلالات فنية وبلاغية. إن المسعودي في ‘سانشو بانشا يدخل المدينة’ يجرب جملة من أشكال القص القصير وأنواعه، مثلما يجرّب ألواناً من أساليب الكتابة السردية. وكأن البحث عن الذات في هذه المجموعة لا يمضي في سبيل واحد، واطئ. وإنما هي عوالم، وطرق، وتقاطعات. غير أن المسعودي خلال كل ذلك، لا يلغّز، ولا يركِّبُ اللغةَ والصورَ إلى درجة الإبهام أو التعجيز؛ مما يجعل مهمة القارئ الناقد ميسورة إلى حد بعيد. إن المسعودي في بعض نماذجه يَرْكب مركب الخيال المجنّح، ويخوض في أكوان الخوارق، لكن من دون أن يتمحَّل لغةً مصطنعة، ومن دون يجعل القارئ يتوه عن القصد. صحيح أنه لا يعلل، أحياناً، بعض خوارقه كما سنرى لاحقاً، إلا أنه لا يُحدث قطيعة تامة ما بين القارئ والمقروء. ففي قصة ‘سانشو بانشا’ مثلاً يدعو القارئ إلى المشاركة في عملية الحكي من خلال دعوته إلى تأويل ألغاز حكاية متشابكة الوقائع والصور. إن الأمر يتعلق بقصة تجريبية، هي تنويع على حكاية ‘ضون كيخوطي’ الشهيرة. تنويع غاية في التفتيت. إلا أنه، على الرغم من ذلك يُبقي أمام القارئ أبواب الاحتمالات مفتوحة. يقول السارد قبيل خاتمة النص:
‘من توصل منكم إلى جديد، وتمكن من وصل خيوط هذه الحكاية ورتقها بخيوط أخرى أكثر طرافة وأشد تماسكاً فليبعث للعبد الضعيف والوريث عن طريق الصدفة لقصة الكاتب المجهول على العنوان الآتي:
سعد الريح
7 زنقة سانشو بانشا
حي الطواحين
أرض أولاد الريح
مدينة أنتير
بلاد الوقواق
وأجركم على الله،
وشكراً لكم وللصحيفة التي نشرت هذه الأوراق، وبهذا وجب الإعلام والسلام’. (ص 10).
قريب من ذلك التجريب التخييلي قصةُ ‘البصلة والراي’ التي تدور حول سارد وحيد يصف وقائع ليلة مثخنة بالتخيلات. وقائع تَتـْرى في غرفة، بما فيها من خمرة، ورقص، وإيقاع شعبي مغربي. إنه الخبل الكثيف. يقول السارد في صورة منتقاة من تلك الكثافة:
‘ساح بي الخيال، ولم أفطن إلا والبصلة محشورة بين فكي، مضغتُ على إيقاع هنا طاح لْـويزْ في سرعةٍ البصلةَ. حلاوتها وطعمها الشهي، أذهبا إحساسي بالجوع وبالغثيان’ (ص 32).
إن اللازمة أو الوسيط في هذه الصورة هو السياحة الخيالية (ساح بي الخيال)، بينما يكمن عمقها المتخيل في الجمع بين المضغ ونمط من الإيقاع الشعبي الشهير في المغرب: ‘هْنا طاحْ لْويـزْ’. لكن أنَّـى يكون للبصلة ‘حلاوتها’ إلا في أجواء هذا الخبل الكثيف؟
ومن هذا التجريب التخييلي أيضاً قصة ‘الجنازة’ التي يدعو فيها الفقيه الناس إلى الصلاة باعتبارها جنازة فأر. لكن زوجة المتوفى تعترض. وفي النهاية يُفتح النعش ويتأكد الجميع أن الأمر يتعلق، فعلاً، برجل في هيئة فأر. ومثلما لم يبرر السارد ألغاز قصة ‘سانشو بانشا’ لا يجنح، مرة أخرى إلى تبرير المسخ الذي يشكل العمود الفقري لقصة ‘الجنازة’. كأنه قَصَد إلى أن يكون الموضوع الرئيس للنص المسخ بعينه، هكذا ومن دون احتفاء بالأسباب والمبررات.
ويمضي الخيال بعيداً بالسارد، ويختلط، مرة أخرى بالخبل كما في قصة ‘حذاء البوهالي’. والبوهالي هذا أستاذ بالثانوي. اكتشف ذات يوم أن إحدى فردتي حذائه المطاطي الطويل احترقت. كان قد تعود وضع الحذاءين في دولابه الخاص بقاعة الأساتذة، حتى إذا ما تهيأ للدخول إلى القسم ينتعل بدلهما حذائيه اللامعين. وما أن اكتشف أمر الاحتراق حتى بدأ يوجه سلسلة الاتهامات؛ انطلاقاً من الأساتذة، فالتلاميذ، فالصديق، فصدّام حسين، فأمريكا، فالسمك. إلى أن انتهى به الأمر إلى الجنون. ولم تخل هذه القصة، هي الأخرى من اللازمة المسخَّرة لاستدعاء الخيال، من خلال عبارة ‘رأى فيما يرى النائم’ (ص 47)، على غرار لازمة ‘ساح بي الخيال’ في قصة ‘البصلة والراي’.
وإذا غضضنا الطرف عن هذه الخطة الخيالية الجامحة ألفينا في المجموعة تقنية جمالية أخرى شديدة الحضور، قائمة على أسلوب المفارقة. ولقد لاحظتُ أن المسعودي يتميز، في هذا المضمار بطاقة قوية تجعله يبني عديداً من قصصه على المفارقة التي تفضي إلى السخرية. وأحياناً ينضاف إلى السخرية طرفة الحدث وطرافة الفكرة. من ذلك قصة ‘الحاج أريـيل’ القائمة على المفارقة بين الدعاء ضد أمريكا ثم شراء بضاعتها: مسحوق الصابون أريـيل. وقصة ‘هروب’ الدائرة حول مثقف يحاول الهروب من نفسه من خلال إدمان القراءة وتغيير المكان، ثم يصادف في الشارع صخب انتخابات لا يومن بها. وقصة ‘سخرية’ الدائرة حول رجل لا يريد أداء دين بذمته لصبي يبيع السجائر بالتقسيط. وهي قصة غاية في القصر، تقوم على مفارقة شبيهة بتلك التي تسم أبطال المقامات: حيث إن السارد يكتشف، بعد سلسلة الأحداث السابقة، أن الرجل المذكورَ مرشح للانتخابات.
بيد أن أسلوب المفارقة يصل إلى ذروته في تلك النصوص القائمة على السخرية، بما فيها القصص القصيرة جداً، المتراوحة بين سطرين وخمسة أسطر. هي في حقيقتها ‘نكت’ أكثر مما هي قصص بالمفهوم البلاغي للمصطلح. ويمكن أن نضرب أمثلة لذلك بنصوص: ‘عدالة’. ‘حلال وحرام’. ‘تأويل’. ‘مراهقة’. ‘عمى’.
إلى جانب التجريب التخييلي وأسلوب المفارقة يمكن أن نميز في مجموعة المسعودي ما يعرف في النقد السردي بقصة اللقطة. أي تلك التي تقوم على طرافة المشهد السردي القصير أكثر مما تقوم على فلسفة متماسكة، أو فكر متعال. من ذلك قصة ‘ابتسامة إيطالية’ التي تصور سارداً يعيش في مكان ما من القرى الأطلسية، الضاربة في المجهول. ذات مساء عاين فتاة إيطالية سائحة في نـزْل. ابتسمت له ثم غابت إلى الأبد مع أهلها في سيارة لاندروفر. وعلى إثر الغياب استعان السارد بتلك الابتسامة الهاربة على مجاهدة عزلته وغربته.
ثم هناك تقنية تبادل الرسائل كما في قصة ‘فأر الحقول’. وهي نص مفعم بسمات النقد الاجتماعي الصريح. وإذا كانت قصة ‘الحوالة البريدية’ لا تقوم على التقنية ذاتها؛ فإن موضوع تلقي الرسائل لا يغيب عنها. ويتعلق الأمر بمعلم مقطوع من شجرة. يتوصل زملاؤه برسائل وحوالات إلا هو، إلى أن تمكن منه الحزن جراء ذلك. ثم فكّر في حيلة أن يرسل حوالة باسمه إلى نفسه. لكن الحوالة ضاعت فعاوده الحزن. والموضوع طريف كما هو واضح، له نماذجه العالمية المشهورة، وإن كان، في رأيي يحتاج إلى المزيد من التصوير السردي العميق.
***
تتأرجح مجموعة ‘سانشو بانشا يدخل المدينة’ بين تنكير الشخصيات والأماكن وبين تعريفها. واعتماداً على قراءة إحصائية سريعة يمكن القول إن كفة التنكير لدى المسعودي ترجح على كفة التعريف. ربما تكمن علة ذلك في أن السمات الإبداعية لدى الكاتب تنـزع نحو استلهام الطوابع الكونية المطلقة أكثر مما تنـزع نحو استلهام التفاصيل الواقعية والمحلية. (ألم أقل منذ البداية إن المسعودي من هواة التأملات الصوفية، والأفكار القلقة وفق نهج التوحيدي؟). لكن على الرغم من ذلك لا تخلو المجموعة من نماذج محلية من قبيل قصة ‘الجيلالي’ الذي عُرف بعدة مزايا منذ طفولته؛ من ذلك تعلمه، عصامياً، الفرنسيةَ والألمانية إلى أن أصبح بفضل ذلك مرشداً سياحياً. لكن الحرفة بارت مع مرور الأيام فانعزل الجيلالي في دار بحي القصبة بطنجة. وكان سائح ألماني قد أهداه كلباً فأحبه، ولما مات الكلب حزن عليه الجيلالي حزناً شديداً، وانقطع عن الخروج. هي قصة يرقى موضوعها المحلي ليصبح كل شيء. حتى العقدة أو قمة التوتر ليستا ضروريتين. يكفي القول إن حدوتة القصة ذات توابل محلية، خاصة من حيث التصريح بالأماكن: (مقهى الدالية/ ملعب مرشان/ متحف القصبة/ مقابر الفينيقيين/ مقهى الحافة/ الجبل الكبير/ البلاصا الجديدة/ مقبرة الكلاب ببوبانة). وكلها مواضع معروفة في مدينة طنجة.
غير أن هذا الكرم التعريفي يقابله إمعان في تنكير الأمكنة في عديد من قصص المجموعة. وهذا التنكير على نوعين:
الأول تام بحيث يُشار فيه إلى موضوع الحدث إشارة عامة دونما تحديد لأي اسم علم شخصي أو مكاني. من ذلك قصة ‘سخرية’ التي لا نكاد نعرف فيها عن الراوي شيئاً، مثلما ليس هناك تنسيب أو تعيين مخصوص للأماكن: (باب المحطة/ المدينة/ المقهى/ الدكان…).
أما التنكير الثاني فجزئي، أو هو يَعْرِف بعضَ التحوير أو التحريف أو التركيب على مستوى ذكر الأسماء. من ذلك قصة ‘سانشو بانشا يدخل المدينة’ التي تُمثل فيها ‘أنْـتـير’ مرجعاً مكانياً أساساً. ونرجح أن اسم هذا المكان تحريف لاسم تـنْغير بدليل أن الكاتب نفسه أشار في الصفحة الأولى إلى أن هذه القصص كتبت بين سنوات 1993-2010 ما بين مدينتي طنجة وتنغـير. وفي القصة ذاتها تركيب خارق لمكان ‘بَنْشَاطُوشة’ الجامع بين اسمي سانشو بانشا وفطوشة زوجته.
***
أحدس أن مجموعة ‘سانشو بانشا’ هي بداية انطلاق المسعودي للخوض في عوالم القصة القصيرة الجميلة والصعبة في نفس الآن. هي المنطلق بكل ما في الكلمة من دلالات. ذلك أن المسعودي جمع فيها أنماطاً من القص القصير، من دون أن يكتفي بالقصة القصيرة وحدها، أو القصة القصيرة القائمة على الخيال المجنح، أو الواقعية المبسطة. ففي المجموعة قصص التجريب التخييلي، وقصص الرسائل كما قد سلف. وفيها أيضاً القصة القصيرة، والقصة القصيرة جداً، وقصة اللقطة. وفيها القصة المكتوبة في أقل من سطر ونصف. وفيها النكتة. وفيها الثنائيات، والتساؤلات والشذرات. وربما مال المسعودي في تجاربه اللاحقة إلى واحد من تلك الأشكال، أو اختار غيرها، ممعناً في التجريب، إلى أن يستخلص لنفسه الشكل الذي سيصوغه طبقاً لمزاجه الشخصي، وكذا لرؤيته في أكوان الفكر والحياة.

مقالات ذات صلة

Sign In

Reset Your Password