تعرضت العاصمة باريس لأبشع العمليات الإرهابية التي شهدتها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. وتختلف زوايا معالجة حدث بهذا الحجم المأساوي بين السياسي والأمني والاجتماعي بل وحتى التأثيرات الاستراتيجية، البعض منها على المدى القصير والآخر قد يمتد زمنيا. وحول هذه النقطة الأخيرة، فالضحية الرئيسية لهذه التفجيرات هي التعايش على مستويين، الجاليات الإسلامية في الغرب، وعودة الترويج لشبح المواجهة العقائدية عبر ثنائية الغرب والشرق على خلفية دينية وثقافية.
وطيلة سنوات عديدة، ومنذ أن فرض الإرهاب المرتبط بالدين الإسلامي، نفسه في الأجندة الاستخباراتية والأمنية والعسكرية العالمية، وهذه الأجهزة تركز كثيرا على التنسيق مع دول الجنوب، وأغلبها العربية لدرء مخاطر هذه الآفة. وساد لفترة طويلة وحتى تفجيرات باريس تصور أمني يتجلى في” الخطر الإرهابي القادم من الجنوب”.
وعقدت الدول الغربية مع نظيرتها العربية وخاصة الأوروبية مع المغاربية، عشرات المؤتمرات العلنية والسرية منها لدراسة سبل الوقاية من الخطر الإرهابي القادم من الجنوب. وهكذا، فقد تناسلت الدراسات التي كانت تشير الى تسرب الإرهابيين ضمن مهاجري قوارب الهجرة من الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط نحو شماله، ثم الارتباط العضوي والتنظيمي بين مختلف التنظيمات الإرهابية وخاصة القاعدة ولاحقا داعش بخلايا نائمة أو ذئاب منفردة (الإرهابي الذي ينفذ عملية لوحده).
ويعود هذا التصور الى تفجيرات 11 سبتمبر ضد الولايات المتحدة. وكان واقعيا في البدء بحكم قدوم جميع الإرهابيين المتورطين في هذه الاعتداءات التي مست نيويورك وواشنطن من الخارج، وبالضبط من الشرق الأوسط. لكن التفجيرات الكبرى اللاحقة التي تعرض لها الغرب وأساسا أوروبا وهي: مدريد يوم 11 يناير 2004 ولندن يوم 5 يوليوز 2005 ثم باريس مرتين 7-9 يناير و13 نوفمبر 2015 جاءت بتنفيذ شباب أوروبي من أصول العالم العربي والإسلامي، بل وأغلبهم من الجيل الثاني والثالث من المهاجرين الذين ولدوا في الأراضي الأوروبية.
منطقيا، لا يمكن استبعاد الأسباب الخارجية في الإرهاب الذي تعانيه أوروبا، ويمكن حصره بالضبط في عاملين رئيسيين، الأول وهو فكري، ويتربط بمضمون بعض الفضائيات العربية المتطرفة ومواقع رقمية في الإنترنت التي تستهدف استقطاب المهاجرين فكريا، وهي خطوة رئيسية لتأهيل لشباب الى العمل الإرهابي الميداني. ويضاف الى هذا دور بعض الأئمة المتطرفين في مساجد في أوروبا. والسب الثاني، هو انتقال بعض الشباب الأوروبي المسلم الى مناطق النزاع في الشرق الأوسط للقتال في صفوف حركات متطرفة والتدريب والعودة لزرع الرعب.
لكن الأسباب الخارجية لا تخفي واقعا مرا وهو انتماء جزء هام من المتطرفين الذين نفذوا عمليات إرهابية الى جاليات مقيمية في الدول الأوروبية ولم يسبق للبعض منهم زيارة معسكرات التدريب في الشرق الأوسط أو منطقة الساحل بل لم يزوروا أي بلد عربي أو إسلامي منذ ولادتهم في حواضر مثل باريس، أمستردام، لندن أو بروكسيل. وهذا يجعل الاستراتيجية التي سادت وسط الأجهزة الاستخباراتية لسنوات طويلة “بالخطر القادم من الجنوب” ضعيفة أمام “الخطر الداخلي” في أوروبا بل وألهتها عن الاهتمام بالداخل حتى تفاقم الخطر.
هذا الواقع المر يطرح تحديين كبيرين، الأول وهو إشكالية الاندماج الفاشلة حتى الآن، والثانية إشكالية تعايش المسلمين وسط المجتمعات الأوروبية وبين الغرب والشرق الممثل في العالم الإسلامي وأساسا العربي منه.
لم يعد الإرهابي هو ذلك الشبح القادم من الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط بل المهاجر الذي عادة ما يكون منغمسا في الإجرام العام مثل السرقة والمخدرات ويتحول فجأة الى متطرف إسلامي مهيئ لتنفيذ عمليات إرهابية بما فيها الانتحارية، كما أبانت تفجيرات باريس وقبلها مدريد.
وأصبح الوعي بهذه المعضلة قوي وجلي. وخلال هذه التفجيرات، تجنبت الدولة الفرنسية والصحافة الرزينة استعمال تعابير مثل “فرنسيين من أصول مغاربية أو عربية” بل استعملت “فرنسيين”. ويساعد هذا الخطاب على تجنيب الدول المصدرة للهجرة مثل المغرب العربي-الأمازيغي المسؤولية المعنوية لهذه الاعتداءات، عكس خطاب الماضي.
ويكشف هذا الخطاب في الوقت ذاته، وعي الدول الأوروبية بأن المعضلة هي إشكالية الإندماج. فقد فشل النموذج الأوروبي في إدماج المهاجرين سواء المحافظين أو الليبراليين. ويشعر أفراد الجالية العربية والإسلامية بما فيهم من يساريين وليبراليين أنهم يكادون يعيشون في عالم خاص بهم بسبب سياسة التهميش. وهذا النموذج الأوروبي لم يستفد من النموذج الأمريكي الذي يسهل الاندماج، وهو ما يجعل متطرفين أمريكيين من أصول عربية لا تواجد لهم.
والإشكال الثاني المرتبط بهذه التفجيرات هو تحدي التعايش وسط أوروبا وبين العقائد والثقافات، ونعني بين أوروبا والعالم العربي أساسا أكثر منه بين الشرق والغرب. ومن اعتداء إرهابي الى آخر، مدريد ولندن وباريس، تتراكم مواقف ردود الفعل بين الرفص الصامت الى الحقد الحقد العلني في مخيلة غالبية الغربيين تجاه الجالية المسلمة وتجاه العالم العربي. ومن أبرز تجليات هذه الظاهرة انتعاش خطابات اليمين القومي المتطرف التي أصبحت راسخة في المجتمعات الأوروبية. وفي المقابل، من تدخل عسكري غربي غير قانوني الى آخر مثل العراق وليبيا وسوريا تتفاقم الصورة النمطية حول الغرب في مخيلة العربي.
وتكون النتيجة السلبية هي انتعاش الصورة الواعية أو غير الواعية للتطرف والرفض في المخيلة العربية والغربية، حيث تصبح من عناصر مخيلة هذا الطرف تجاه الآخر وجدران نفسية صعبة الاختراق، وتمتد زمنيا، وهذا هو مصدر القلق الأبدي. وتجد انتعاشا ليس فقط في ازدهار خطابات الحقد بل سهولة تصريف هذه الخطابات في الوقت الراهن عبر آليات التواصل الجديدة التي توفرها شبكة الإنترنت.
بعد وقوع التفجيرات، يتطلب الوضع المعالجة الأمنية العاجلة لتوفير الأمن. لكن المرحلة الثانية هي التفكير في إدماج الأقليات العربية والمسلمة وتوفير فرص الرقي الاجتماعي لأفرادها مثل باقي أفراد المجتمع الذي يقيمون فيه، وهو الامتحان الذي ترسب فيه الدول الأوروبية رغم كثرة الوعود والشعارات في هذا الشأن.