مر الوضع الداخلي للولايات المتحدة بفترة حساسة للغاية، نادرا ما عاشته البلاد منذ الحرب الأهلية إبان ستينيات القرن التاسع عشر. وتحدث كل هذه التطورات بسبب ما أقدم عليه الرئيس السابق دونالد ترامب من إيقاظ «الوحش الأبيض»، وقد ينتهي على شاكلة الرئيس الفرنسي الأسبق ساركوزي، أي مدانا بموجب القضاء، بعدما قررت الدولة العميقة عرقلة عودته إلى البيت الأبيض لما يشكله من خطر على مستقبل البلاد.
وهكذا، في مقال في مجلة النخبة الأمريكية «ذي أتلانتيك» نشر المحلل تيم ألبرتا في العدد الأخير مقالا رائعا بعنوان «ما هو المقبل بعد أمر التفتيش؟ حيث يعالج بعض التطورات التي قد تشهدها البلاد بعد عملية مصادرة وثائق سرية للغاية من قصر ترامب في ميامي تتعلق بالأسلحة النووية. ويستعرض في مقاله كيف شكّل فوز ترامب ثم خسارته في الانتخابات واستمراره في التحكم في الحزب الجمهوري، فرصة إيقاظ الوحش الداخلي المتمثل في الناخبين المتطرفين للحزب الجمهوري المستعدين للدخول في الحرب الأهلية من أجل ما يعتبرونه حربا مقدسة لاستعادة حقوقهم.
والواقع أن نسبة ضئيلة من الأخبار هي التي تصل إلى الرأي العام الدولي، ومنها العربي، حول ما يحصل حقيقة من تطورات اجتماعية – سياسية في الولايات المتحدة، نظرا لهيمنة السياسة الخارجية لواشنطن على الاهتمام، على حساب ما هو داخلي. في حين أن ما يجري من أحداث داخلية هو مروع، ويلخصها تيم ألبرتا في كيف يعتقد ملايين الأمريكيين أن ما يتعرض له دونالد ترامب هو عقاب له بسبب التضحيات التي قدمها من أجلهم. بالتالي، يعلنون استعدادهم لخوض حرب أهلية من أجل الدفاع عن معتقداتهم السياسية الممزوجة بما هو ديني. وعمليا، يتحدث أكثر من باحث ومؤرخ، بل خبراء الدولة العميقة الأمريكية عن خطر الحرب الأهلية في ظل الانقسام الخطير وسط المجتمع، وامتلاك الناس للسلاح. وكل هذا يعود إلى كيف أيقظ ترامب «الوحش الصامت»، ونعني بالوحش الصامت هو الأمريكي الأبيض، الذي طيلة الثلاثة عقود الأخيرة، وبالضبط منذ ولاية الرئيس بيل كلينتون يعتقد في وجود مخطط للقضاء على هيمنة البيض لصالح مجتمع متعدد من مختلف الأعراق، والدفع نحو حكومة عالمية تغيب فيها سيادة الولايات المتحدة. والأخطر في الأمر، تعتقد هذه الشريحة في أن عمليات القتل الجماعي التي يقوم بها أشخاص بفتح النار في تجمعات مثل، الأسواق والمدارس أو الشارع عموما تقف وراءها جهات ترمي الى إيجاد المبرر لسن قانون حظر بيع الأسلحة ومصادرتها من المواطنين للانتقال إلى تنفيذ المخطط من دون وجود مقاومة. في هذا الصدد، يقول راي داليو وهو رجل أعمال شهير ومفكر صاحب كتب مهمة، وكان أول من تكهن بالأزمة المالية لسنة 2008 وكان الكثيرون يسخرون منه وقتها، بأن الوضع الأمريكي الراهن المتسم باستقطاب لم تشهده البلاد منذ فترة تاريخية طويلة، يحتضن ما يكفي من عناصر لاندلاع الحرب الأهلية. وكان المؤرخ الأمريكي نييل هوو قد نشر سنة 1991 كتابا يتحدث فيه عن وقوع اضطرابات تشبه الحرب الأهلية، ابتداء من سنة 2020، وهو ما يتحقق حاليا. ويوجد قلق كبير وسط دوائر صنع القرار، أي الدولة العميقة «أستبلشمنت» حول مستقبل البلاد، خاصة وسط المؤسسة العسكرية والاستخباراتية التي ترى في عودة ترامب خطرا سيعصف باستقرار البلاد، وسيمنح الصين الفرصة التاريخية لإزاحة الولايات المتحدة من ريادة العالم، بل وضربة قوية لتكتل الغرب برمته. وكان الجيش قد لعب دورا غير مباشر في هزيمة ترامب في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، بعدما انتفض قادة الجيش ضده بشكل لم يحدث منذ الحرب الأهلية، وكان ذلك إشارة الى الناخبين المتعاطفين مع الجيش، وهم نسبة عالية في المجتمع الأمريكي، بمعاقبة ترامب. ولا يتردد أكثر من قائد عسكري سابق إلى الدعوة إلى تجنب عودة ترامب لما يشكله من خطورة. ويكفي أن ترامب صرح منذ أسبوعين بجعل الحرس الوطني تحت قيادة البيت الأبيض، وهو تدخل كبير في العمل العسكري. وكان ترامب قد انتقد سنة 2020 عدم تحرك الحرس الوطني لوقف الاحتجاجات التي تلت مقتل الأمريكي جورج فلويد في ولاية مينيسوتا، وأدت الى أكبر الاحتجاجات في تاريخ البلاد. وكان موقف ترامب من هذه الاحتجاجات سببا في مواجهته مع المؤسسة العسكرية، حيث كان قائد الأركان المشتركة الجنرال مارك ميلي قد صرح بأن الجيش لن يطبق أوامر الرئيس، في سابقة تاريخية.
وتشكل الملفات القضائية المفتوحة ضد الرئيس السابق، الوسيلة الأمثل للتخلص منه، فهو متهم بالتهرب الضريبي والتلاعب بالأرباح، في مجتمع يحرص على جعل الالتزام الضريبي في مصاف التشبث بالروح الوطنية، وقد قام بالتلاعب بأسرار البلاد الدفاعية في بلد يجعل من الصناعة العسكرية علامة من علامات الفخر أمام باقي أمم العالم، وينص على عقوبات سجنية قوية ضد من ينتهك هذه الأسرار. ويبدو أن مصير دونالد ترامب سيكون على شاكلة الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، الذي حاول في عدد من المناسبات التصرف كأحد رؤساء جمهورية الموز التي انتشرت في أمريكا اللاتينية، وانتهى به المطاف مدانا في عدد من القضايا ذات الطابع الإجرامي. وكانت الطبقة السياسية الأمريكية ترغب دائما في تفادي اعتقال رئيس البلاد دفاعا عن حرمة الرئاسة، وهو ما فعلته مع الرئيس الجمهوري الراحل ريتشارد نيكسون في فضيحة «ووترغيت» التي استقال بموجبها، حيث يجب أن يحظى الرئيس بالاحترام الأبدي.
إن اللوحة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في الولايات المتحدة مخيفة، المرشحون المعتدلون في الحزب الجمهوري والديمقراطي يخسرون في الانتخابات الأولية لصالح الراديكاليين، الهوة تتسع بين الأغنياء والفقراء بشكل مرعب، مشاعر معاداة الأجانب تفاقمت، والمواطن بدأ يفقد الثقة في المؤسسات. كلها عناصر تعد مقدمة لوقوع الأسوأ، ويكفي استحضار يوم 6 يناير/كانون الثاني 2021 عندما هاجم متطرفون الكونغرس الأمريكي لتغيير نتيجة الانتخابات الرئاسية، سيناريو شبيه بما يحدث في الدول الهشة.