ليس انتقاد ما تقوم به المؤسسات الرسمية هدفا رئيسيا لهذا المقال. فوزارة الخارجية “قادة بشغلها” ولن أكون أنا من يقدم لها دروسا في طريقة تسيير ملف الصحراء الغربية. ما أحاوله هنا هو مجرد قراءة نقدية سريعة لما آلت إليه الأمور بعد قرار المحكمة الأوروبية القاضي بعدم إدماج الصحراء في أي اتفاق بين المغرب ودول الاتحاد الأوروبي، دون أن يعني ذلك انتقاصا من مجهودات أشخاص يسهرون على مصالح الوطن. يجب توضيح هذه المسألة حتى لا ندخل في نقاشات عقيمة لا جدوى من ورائها. قد أشكك في كفاءة بعض المسؤولين في تسيير الملف، ولكن من المستحيل أن أرتاب في حسن نيتهم وحبهم لوطنهم.
لقد اعتبرت في مقال سابق نشر على صفحات هسبريس أن عودة المغرب إلى أحضان إفريقيا هو مجازفة بالرغم من شجاعة المبادرة. بعد سنة تقريبا من جلوس العاهل المغربي في المحفل نفسه الذي ضم رئيس “الجمهورية الصحراوية”، فإن أهم نتيجة نحصدها اليوم هي عدم تقدير عدد كبير من الدول ما تعنيه قضية الصحراء بالنسبة للمغاربة ومدى أهميتها الاستراتيجية لضمان استقرار المنطقة، كونها مسألة وجود وليست مسألة حدود، هي جملة تلخص بشكل متين ما تعنيه هذه القضية بالنسبة لمستقبل المغرب.
من هنا وجب التنبيه إلى أن أي خطوة يجب أن تحسب بالمليميتر قبل السقوط في هاوية قرارات قد لا يحسن المجتمع الدولي تأويلها. بالعربي الفصيح: إذا كان المغرب نفسه قد قبل بالجلوس مع البوليساريو، فلماذا سيحجم الآخرون على اعتباره مخاطبا مؤهلا للدفاع عن “حقوق الشعب الصحراوي”؟
ما قامت به المحكمة الأوروبية يدخل في هذا السياق. ردود فعل الحكومة، بالرغم من حزمها الشكلي، تبقى مفيدة للاستهلاك الداخلي لكنها بعيدة كل البعد عن تحقيق أي ضغط ناجع ما دامت حاجتنا إلى أوروبا تفوق حاجتها إلينا.
وبعيدا عن الوقوف عند ما نطقت به المحكمة، على أهميته، سأحاول هنا فقط وضع نقاط سريعة يمكن من خلالها فهم درجة التخبط الذي شاب هذه القضية، وخاصة “قلة الرزانة” في تعامل بعض المسؤولين المغاربة مع موضوع شائك كهذا، سواء خلال جلسات المحكمة المذكورة أو بعد نطقها بالحكم.
لقد حاولت قبل تسطير هذه الكلمات عرض مضامين القضية على بعض الأصدقاء الإيطاليين ذوي اختصاصات مرتبطة بالقانون وبالعلاقات الدولية، وسأعمل هنا على وضع آرائهم وتلخيصها علها تفتح نقاشا لدى ذوي الاختصاص عندنا.
لقد حاولت بداية أن أنطلق من مجموعة من الأسئلة حتى يتسنى من خلالها وضع القضية بأكملها في سياقها العام.
السؤال الأول: لماذا لم يتم طرح هذه القضية بتاتا حينما تفاوض المغرب مع الاتحاد الأوروبي في 1995؟ هل من طارئ حصل في القانون الدولي منذ ذلك الحين؟
السؤال الثاني: ماهي الاختصاصات القانونية التي تخول للمحكمة الأوروبية البت في قضايا مرتبطة بمعاهدات دولية؟ ولماذا لم تتطرق لهذه القضية في 1995؟
سؤال الثالث: ما هي المؤسسة المخولة قانونيا بحماية ساكنة الصحراء؟ هل هي الأمانة العامة للأمم المتحدة أم المحكمة الأوروبية؟
السؤال الرابع: هل كان من الضروري أن يقوم المغرب بتنازل غير مسبوق يسمح بموجبه للبوليساريو بإبداء رأيه في اتفاقيات ثنائية بين المنظمة الأوروبية وبلد ذي سيادة؟ هل معاهدة فيينا 1986 أخذت بعين الاعتبار هذه الحالة؟
السؤال الخامس: هل كان من الضروري أن يحاول المغرب منذ 2016 التأثير على قرار المحكمة الأوروبية وهل كانت هناك أسس قانونية تسند ذلك؟ ألم يقم المغرب عبر محاولاته تلك بالانتقاص، بشكل ضمني، من سيادته؟
من هنا نصل إلى آراء المختصين التي يمكن إجمالها في:
أولا: كل قرارات المحكمة الدولية المتعلقة بالاتحاد الأوروبي، التي تعتبر حسب القانون الدولي منظمة دولية (معاهدة فيينا 1986)، تلزم فقط الدول المنتمية للمنظمة ولا يمكنها الخوض في اتفاقيات مرتبطة بدول غير منتمية للاتحاد الأوروبي.
ثانيا: إذا قبلنا بخوض المحكمة في اتفاقية موقعة بين الاتحاد الأوروبي والمغرب، فإن القضية لاغية أساسا باعتبار أن المحاكمة لا تتوفر على الضمانات الكافية. فالمغرب ليس عضوا في الاتحاد الأوروبي لكي يترافع ويدافع على مواقفه.
ثالثا: إذا افترضنا جدلا أن الاتحاد الأوروبي قد أخطأ في توقيعه على معاهدة 19985 مع المغرب، فإن على هذا الاتحاد أن يجد مخرجا قانونيا لمشكلة داخلية بين الدول الأعضاء في اتفاقياتها مع دولة ذات سيادة. أمام هذه الفرضية، فإن الاتحاد الأوروبي سيجد نفسه ملزما بمواجهة الأمين العام للأمم المتحدة باعتباره السلطة الشرعية الوحيدة التي يمكنها الحديث عن حقوق الساكنة في الصحراء. والمغرب من حقه آنذاك التوجه إلى محكمة العدل الدولية لكي تحدد، داخل إطار الاستشارة القانونية، إن كان يسمح للرباط بالتوقيع على اتفاقيات دولية باسم الساكنة الصحراوية.
رابعا: حينما قبل المغرب بنشر بيان مشترك مع السيدة موغيريني، فإنه قبل بشكل ضمني لقاءاتها واتصالاتها بمسؤولي البوليساريو من أجل مناقشتهم في موضوع يخص العلاقات الثنائية بين الرباط وبروكسيل. أي بشكل أوضح، إن المغرب أعطى للمفوضية الأوروبية إمكانية استشارة كيان غير معترف به من طرف الاتحاد الأوروبي وبقرار من المحكمة الأوروبية في دجنبر 2016.
انطلاقا من هذه الحيثيات نصل إلى بعض الاستنتاجات التي أتمنى أن تكون بداية نقاش مفتوح غايته استيعاب مدى نجاعة الطريق الذي تم اختياره لمعالجة قضية الصحراء.
ارتكبت الدبلوماسية المغربية خلال الحقبة الأخيرة أخطاء كبيرة لا يمكن التكهن بعواقبها. فهي من حيث لا تدري تعطي للبوليساريو نفسا جديدا كلما اختنق وضاقت به الأرض. قرار المحكمة الأوروبية هو حلقة في سلسلة من الأخطاء القاتلة التي تصب في خانة كيان يحتضر.
من تبعات قرار المحكمة الأوروبية السماح، ولو نظريا، للبوليساريو بإيقاف عملية انضمام المغرب للمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا ما دامت الصحراء لا يمكنها أن تكون جزء من التراب الجمركي المغربي. أكثر من ذلك فإن “الجمهورية الصحراوية”، باعتبارها عضوا في الاتحاد الإفريقي، وهي العضوية التي قبلها المغرب ساعة دخوله هذه المنظمة الدولية، فإنه بإمكانها أن تطلب هي الأخرى الانضمام إلى “سيدياو”.
أتت اللحظة التي يجب فيها أن نتساءل فيها بكل موضوعية: هل الأخطاء المتكررة للدبلوماسية المغربية (منذ سنوات) هي وليدة انعدام الكفاءة أو ربما هي نتيجة اختيارات استراتيجية غير واضحة المعالم ارتأت أن تضرب عرض الحائط أبجديات القانون الدولي المعروفة والتصرف عبر قوانين جديدة يعرفها فقط “موالين الدار”؟
بقي سؤال أخير وهو “راس الخيط”: ألم تكن الرسالة التي تبادلها السيد روبير زوليك والسيد الطيب الفاسي الفهري وتم بموجبها استثناء الصحراء الغربية من اتفاقية التبادل الحر مع الولايات المتحدة أساسا لكل المشاكل التي نواجهها اليوم وسنواجهها مستقبلا؟ فبجرة قلم هدم وزير الخارجية الأسبق كل البناء القانوني والاستراتيجي والتكتيكي الذي نسجه المغرب بكل روية وتبصر خلال مرحلة استرجاع الصحراء.
من هنا الدعوة إلى التأني والتفكير قبل الدخول في متاهات تتجلى كفخ يسقط فيه المغرب كل مرة، “ألف تخميمة وتخميمة ولا ضربة بالمقص”. من بيده خفايا هذا الملف وبعيدا عن لغة الاستهلاك الداخلي عليه أن يعي أن الصراع حول الصحراء الغربية أصبح، ومنذ مدة، صراعا قانونيا يخفي الصراع الحقيقي، وهو ذلك السياسي بين المغرب والجزائر. القانون الدولي في هذه الحالة يصبح أداة تستعملها بإتقان الجزائر عبر البوليساريو حتى لا تتم مواجهة مشاكل أخرى أكثر أهمية كرفض إحصاء لاجئي تندوف والهجوم العسكري المتكرر في السبعينات على أراضي استرجعها المغرب عبر اتفاقية ثنائية مع إسبانيا (أمغالة، بير انزارن).
القضية قانونيا مملوءة بالألغام لا ينجو منها إلا من يحسن تفاديها. هذه المعركة لم تعد تقبل الارتجال وتحتاج إلى مختصين. ابحثوا عنهم في أرض الوطن وتسعيرتهم أرخص بكثير من أولئك الأجانب الذين لم يفيدوكم في أي شيء.