التأريخ الإسباني وحتى منتصف القرن العشرين كان يقدم قراءة وحيدة للوجود الإسلامي في إسبانيا وتتلخص في وصول العرب والأمازيغ في إطار الغزو، ثم رفض الاعتراف بأي مساهمة حضارية لهؤلاء في تاريخ إسبانيا، رغم بقائهم لما يفوق ثمانية قرون في هذه الأراضي. وحرصت الكنيسة على هذه القراءة أو الرواية التاريخية، التي تعتبر استثنائية في الفكر الإنساني، لأن النفي يصل هنا إلى مستويات غير عقلانية، ويقوم على معارضة معطى بديهي في تاريخ البشرية وهو التلاقح الثقافي والحضاري مهما كان السياق التاريخي، سواء الاستعمار، ونعني الفعل بالقوة، أو الترحيب، ونعني التأثير بالطواعية.
وتبقى المفارقة في الكتابة التاريخية الإسبانية حتى بداية القرن العشرين هي نفي مساهمة أحد أعلام الفكر في تاريخ البشرية وهو ابن رشد، الذي عاش وألف كتبا في الأندلس. وفي أواخر الأربعينيات من القرن العشرين، سيسجل التأريخ الإسباني منعطفا فكريا، سيبدأ مع تبلور مفهوم جديد لتاريخ الأندلس بمحاولة تقديم قراءة بديلة للرواية الكلاسيكية تصل إلى القطيعة، نظرا لمواجهتها إرثا فكريا -دينيا هيمن لقرون. سيحدث هذا المنعطف مع المؤرخ أمريكو كاسترو بإنصافه الدور الرائد للمسلمين عموما في تاريخ إسبانيا. وقاده الغوص في البحث عن حقيقة تشكل إسبانيا، إلى استخلاص نتيجة تاريخية مهمة للغاية وهي: «إسبانيا الحديثة هي نتاج التعايش بين المسلمين والمسيحيين واليهود»، ويعتبر ذلك التعايش في القرون الوسطى هو الممهد الحقيقي لإسبانيا المستقبل رغم وقوع الردة ضد هذا التعايش.
وجاءت أطروحته في كتابه الصادر سنة 1948 «إسبانيا في تاريخها»، وهي جريئة وتعترف بالمساهمة الفعلية والكبيرة للمسلمين في بناء إسبانيا في القرون الوسطى، وامتداد تأثيرهم العلمي إلى القرون اللاحقة، سواء في إسبانيا أو أوروبا حتى وقتنا هذا. وأحدث أمريكو كاسترو قطيعة معرفية في تعاطي التاريخ الإسباني في معالجته للدين الإسلامي والإرث الأندلسي القائم على اعتبار بداية تأسيس إسبانيا الحديثة مع سقوط غرناطة، وسيادة السلطة المسيحية. ويعتبر المؤرخ والمفكر خوسي لويس أبيلان في كتابه «التاريخ النقدي للفكر الإسباني المعاصر» أطروحة كاسترو بالتأثير البليغ ذاته لتكسيره الصورة النمطية المصاغة من التأريخ الكلاسيكي، الذي كان سجين المفاهيم الضيقة في رؤيته للتاريخ الإنساني والإسباني منه. ولفهم الثورة الفكرية التي أحدثها أمريكو كاسترو، يجب الأخذ بعين الاعتبار دور الإسلام كعنصر مهم في بناء الكيان الإسباني ووحدته منذ القرن الخامس عشر، فقد كان العدو الذي اتفق الإسبان على محاربته وطرده من الأراضي الإسبانية منذ بدء حروب الاسترداد، ثم نفي أي دور لهذه الديانة في تاريخ البلاد بالعنف عبر محاكم التفتيش، ولاحقا امتداد هذه الرؤية العدوانية إلى المغرب بحكم أن المغرب أصبح الوريث التاريخي لكل ما هو أندلسي وموريسكي في أعين الإسبان. وأتى كاسترو ليكسر هذه الصورة النمطية التي هيمنت تاريخيا. ويعتبر أمريكو كاسترو امتدادا للرؤية الإنسانية للسياسي والمفكر بلاس إنفانتي، الذي نادى بوحدة بين الأندلس والمغرب، غير أنه تفوق عليه في صياغة نظرية أو أطروحة تاريخية تجاوزت المفاهيم السياسية، واكتسبت صلابتها بفضل الطابع الأكاديمي لهذا المؤرخ الذي زاول التدريس في جامعات أمريكا اللاتينية وفي الولايات المتحدة مثل، برينستون وويسكونسين. فقد ألف كتبه وهو يعيش في المنفى بعيدا عن إسبانيا في الخمسينيات والستينيات التي ساد فيها الفكر الديني، بسبب استمرار الجنرال فرانسيسكو فرانكو في السلطة. وكانت وزارة الثقافة ودور النشر الإسبانية قبل الانتقال الديمقراطي سنة 1975 تتحفظ على طبع كتب تحمل مراجعة تاريخية للأسس الفكرية التي قام عليها الكيان الإسباني. وكالعادة، لا يمكن ذكر أمريكو كاسترو من دون الحديث عن غريمه الفكري والثقافي المؤرخ سانتيش ألبورنوث صاحب كتاب «إسبانيا: لغز تاريخي»، فقد جرى جدال ثقافي بينهما يعتبر من أهم المعارك الفكرية في الغرب خلال منتصف القرن العشرين. وساهما في ظهور مدرستين تاريخيتين وفكريتين حول كيفية معالجة الإسلام في إسبانيا والغرب، أو حول دور الإسلام في بناء إسبانيا وتقدم الغرب. وتأخذ هذه المعركة الفكرية أهميتها من الدور الذي يعطيه الكثير من الباحثين للأندلس كجسر تاريخي لنقل المعرفة نحو باقي أوروبا لتحقيق النهضة الثقافية الكبرى. وكان كاسترو يدافع عن مساهمة الإسلام والمسلمين في ظهور الكيان الإسباني، بينما طرح ألبورنوث تبلور إسبانيا ككيان تاريخي ضمن دينامية الشعوب المرتبطة بالإمبراطورية الرومانية مع دور فعال للمسيحية، والتقليل من دور الإسلام واليهودية. وكان ألبورنوث يأخذ مسافة من رواية الكنيسة تجاه الإسلام، رغم تركيزه على المسيحية كمعطى تاريخي لتطور إسبانيا ككيان. وتعرضت أفكار ألبورنوث للتغليط السياسي، عندما تبنتها حركات سياسية متطرفة لتستوحي منها مواقفها المتطرفة، بينما هو لم يكن يعادي المسلمين بقدر ما قام فقط بمنحهم دورا ثانويا في بناء الكيان الإسباني عكس الرؤية التقليدية للكنيسة التي نفت دورهم جذريا. ومقارنة مع أوروبا، تأخرت إسبانيا في مراجعة دور الحضارة العربية – الإسلامية في إسبانيا ودورها في أوروبا، والاعتراف بمساهمتها، وهذا يلقي الضوء على هيمنة الكنيسة على الكتابة التاريخية. وشهدت أوروبا ومنذ عصر النهضة كتبا تاريخية أنصفت المفكرين الأندلسيين مثل ابن رشد وعلماء القرون الوسطى. وكانت الدول السباقة إلى النهضة الأوروبية وفكر الأنوار أكثر إنصافا للحضارة الأندلسية بسبب الوعي بدورها في هذه النهضة والأكثر استيعابا للجانب التنويري في فلسفة مفكرين من حجم ابن رشد. في المقابل تأخرت النهضة في إسبانيا وكان تأثير فكر الأنوار محدودا، ما عرقل المراجعة التاريخية والانفتاح على الآخر. وانعكست القطيعة التي أحدثها أمريكو كاسترو إيجابا على المغرب، فحدوث نظرة إيجابية نحو دور المسلمين في بناء إسبانيا يعني مباشرة إرساء نظرة متسامحة نحو المغرب نظرا لربط الإسبان هذا البلد بالإسلام. وبهذا، دشن هذا المؤرخ، وإن كان بشكل غير مباشر نمطا جديدا في تفكير الإسبان تجاه الجار الجنوبي، ويمتد التأثير الإيجابي لأطروحة كاسترو أبعد من العلاقات المغربية – الإسبانية لتشمل الهجرة المغربية والإسلامية في إسبانيا، ابتداء من نهاية القرن العشرين وأوائل القرن الواحد والعشرين، إذ أن المغرب المهاجر هو جزء من الكيان الإسباني بطريقة أو أخرى، لدور أسلافه في تاريخ هذا البلد.