اغتيال الصحافة الجزائرية/ توفيق رباحي

أسود

لتحقتُ بالصحافة الجزائرية قبيل تخرجي من كلية الإعلام قبل أكثر من ثلاثين سنة. كانت الصحافة حلمي منذ الطفولة.
عندما انتسبتُ لها كانت هذه الصحافة تعيش أفضل أيامها. كنا نشعر بالفخر وبأن سقف الحرية أعلى من السماء، ومثله كان سقف أحلامنا ورغبتنا في التعلم والعمل. رغم الأخطاء الفادحة الناجمة عن قلة الخبرة وغياب التوجيه، ورغم الفوضى المهنية والإدارية، كُنّا على ثقة أن الأفضل ينتظرنا في المحطة المقبلة. كنا شبابا بؤساء ماديا لكن في قمة السعادة. نؤمن بأننا نقدّم شيئا لهذا الوطن، وبأننا أفضل حظا من غيرنا، ننظر إلى المستقبل فنراه يتوهج نورا وأملا وتفاؤلا.
ثم حدثت النكسة بسرعة. في كانون الثاني (يناير) 1992 أوقف قادة الجيش وبعض السياسيين المدنيين الانتخابات النيابية وأعلنوا حالة الطوارئ. سُرقت أحلامنا. دخلت البلاد نفقا مظلما من القتل والتنكيل كانت الصحافة، ومعها نحن، من أكبر ضحاياه.
كانت السنوات التي أعقبت 1992 مؤلمة اعترف بأنني أعجز عن إيجاد الكلمات لوصفها. كنا بين نارين، أمامنا جماعات إرهابية قوامها وحوش بشرية مستعدة لذبحك وأكل لحمك، وخلفنا نظام مستبد يُحمِّل الصحافيين (والمجتمع) «مزيّة» أنه يحميهم (هل كان حقا يفعل؟) وأن واجبهم في المقابل الرضا بأن يدوسهم بحذائه.
كانت بالنسبة لي صدمة شخصية عميقة مزّقت روحي. كانت مثل قذيفة قضت على كل أحلامي وطموحاتي وطاقتي العارمة وحوّلتها إلى شظايا متناثرة. أحمد الله يوميا أنني خرجت من تلك المحنة حيًّا معافى عكس عشرات الزملاء، لكن رغم مرور كل هذه السنوات والخبرة، أقرُّ بأنني لم أُشفَ منها بعد.
كان أملي أن تصبح تلك المحنة درسا وعبرة وحصنا للمستقبل يحمي الجزائر وصحافتها من العودة إلى الوراء. لكننا عدنا. وحال الصحافة الجزائرية في 2023 عودة إلى هذا الوراء المظلم المؤلم. لا أظن أن هناك عاقلا يختلف مع حقيقة أن الصحافة الجزائرية تعيش منذ 2020 أياما سوداء.
كانت الصحافة في بداية عهد بوتفليقة أقرب للتفاؤل وهي تقف على أنقاض عشرية الدم وذكرياتها الحالكة. لكنها سرعان ما وجدت نفسها تتسابق لتأليه الحاكم بأمره، مقابل مزايا مادية وضيعة من قبيل صفحة إعلانات.
كان المال هو سلاح بوتفليقة وعصابته في تدجين الصحافة. وفي حضور المال لا حاجة لك لأسلحة أخرى. أدرك بوتفليقة وأركانه هذه الحقيقة وأدركها أهل الصحافة، فحدث زواج المصلحة إلا من استثناءات نادرة.
بعد حراك شعبي استثنائي في ربيع 2019 أسقط عصابة بوتفليقة، كان المفروض أن يسير حال الصحافة نحو الأفضل، لكن الذي حدث عكس ذلك. فبعد أربع سنوات من سقوط بوتفليقة، يجد الصحافيون الجزائريون أنفسهم في درجة من الانحطاط لم تكن تخطر لهم في أسوأ كوابيسهم.

من المؤلم أن يقارن المرء واقع اليوم بعهد عصابة بوتفليقة مع تلميح إلى أن ذلك الماضي كان أقل سوءا. لكنها الحقيقة الساطعة المتمثلة في أن الصحافة في الجزائر تتعرض منذ بداية 2020 لقمع لم تشهد مثله في السابق.
في السابق كنَّا نخشى على حرية الصحافة من التضييق القانوني والبوليسي، وهو ما كان موجودا طيلة عقود. كانت مراحل من الصعود والنزول والشد والجذب. رغم أنه كان صراعا، إلا أنه كان مقبولا بما فيه من حلقات وفترات متفاوتة بين الحرية والقمع.
اليوم لا صعود ولا هبوط. لا شدّ ولا جذب. تشعر أن هناك جهدا جبارا يُبذل في مستوى ما في دهاليز السلطة لقتل الصحافة ودفنها كقيمة وكنشاط اقتصادي.
عدد الصحافيين المسجونين أو الذين سُجنوا وأُطلق سراحهم، الموضوعين تحت الرقابة أو الذين وُضعوا ثم رُفعت عنهم، غير مسبوق. بهذا يكون النظام الحاكم في «الجزائر الجديدة» قد حقق بعض أهدافه إلى حين، لكنه لم يحقق شيئا للجزائر.
آخر ضحايا الحرب على الصحافة الصحافي إحسان القاضي الذي حُكم عليه بالسجن خمس سنوات (اثنتان موقوفتا التنفيذ) وبحل مؤسساته الإعلامية.
هذا الحكم السياسي ينمُّ عن حقد ورغبة في تدمير إحسان القاضي وما يمثله من رمزية، ولا يخلو من سادية راعت أن الرجل، وهو اليوم في منتصف الستينيات من العمر، عندما يقضي عقوبته يذهب مباشرة إلى التقاعد الصحي والوظيفي لأنه، وهكذا يُعتقد، يكون قد تراجع صحيا وانتهى معنويا وشارف على السبعين. وهو عُمرٌ في الغالب يقتل في أي سجين خارج للتو من عقوبة ظالمة الرغبة في استئناف أي نشاط عام. إلى جانب هذا يجب أن نتوقع أن «حريّته» ستُقيّد برقابة قضائية ومضايقات أمنية وإدارية من قبيل الحرمان من حرية الحركة أو العمل وجواز السفر دون إعلان ذلك رسميا أو كتابيا. وليس أسهل على الطاحونة الأمنية/البيروقراطية الجزائرية من أن تبتلع أيًّا كان، ولها باع طويل في ذلك.
حرب نظام «الجزائر الجديدة» على حرية الكلمة قائمة على جبهة سياسية وأخرى اجتماعية. الجبهة السياسية مبعثها التخطيط لولاية رئاسية ثانية لعبد المجيد تبون. والمتفق عليه بين الذين يخططون للفترة الثانية أن أيّ هامش حرية في الكلمة والتعبير سيشوّش على حساباتهم.
الجبهة الاجتماعية مرتبطة بالأولى ومبعثها الخوف من ثورة جيّاع تعصف بكل شيء، وفي مقدمة «كل شيء» الولاية الرئاسية الثانية. قناعة المحيطين بتبون بأن ثورة الجيّاع باتت في حكم الممكن، وخوفهم من حدوثها في أيّة لحظة هو ما يدفعهم إلى تكميم الأفواه وقمع كل أشكال التعبير التي تنقل الواقع الاجتماعي (البيروقراطية، الفساد، ندرة المواد واسعة الاستهلاك، غلاؤها الفاحش.. إلخ). الخوف من ثورة جيّاع هو ما يفسر تسخير الصحافة الجزائرية للترويج يوميا لأخبار قمع الغش واعتقال «المضاربين» وترويع التجار. هذا الخوف يفسّر كذلك الأحكام القضائية القاسية (السجن المؤبد وبعشرات السنين) التي تصدر في حق مزارعين وتجار جملة ومُلّاك محطات تخزين وتبريد مواد زراعية وغذائية، والترويج لها عاليا.
قليل من العقل يقول إن قمع الصحافة وإذلال الصحافيين لم يصنع يوما أمة قوية. ومثله من النضج يقول إن قتل الصحافة يعني قتل ركن من أركان وطن سوّي. أيُّ قول غير هذا يعني أن صاحبه لم يفهم جيدا دروس التاريخ. وهذا ما يبدو عليه حال «جماعتنا».

Sign In

Reset Your Password