من ثوابت المشهد السياسي في المغرب، منذ أربعة عقود على الأقل، غياب قوة سياسية (أو تكتل سياسي يجمع بين مكوناته حدا أدنى من الانسجام المذهبي) قادرة على تشكيل الحكومة القوية. وبعبارة أخرى، يشي المشهد السياسي هذا بحال من العجز عن التمييز الواضح بين قوتين (أو قوى موحدة) تتمكن إحدى القوتين من الاستحواذ على السلطة التنفيذية وتجعل الأخرى في موقع المعارضة على النحو الذي تعرفه الديمقراطيات العريقة ويقره مبدأ الوضوح الآيديولوجي الذي يسهم في قيام الحياة السياسية الطبيعية. فلماذا كان الأمر على هذا النحو ولم يكن على نحو غيره؟
يعزى السبب في ذلك إلى جملة أمور ترجع، في مجملها، إلى طريقة إجراء العملية الانتخابية في الاستحقاقات التشريعية. من ذلك التقطيع الإداري في دوائر انتخابية لا تعكس حقيقة الوجود السكاني على الأرض، ومن ثم فنحن نجد دوائر انتخابية تمتد (في الأرياف) مساحات شاسعة مع كثافة سكانية ضئيلة في مقابل دوائر في الحواضر تبلغ الكثافة السكانية فيها نسبا مئوية مذهلة، وبالتالي فإن المرشح في الدائرة الأولى يصل إلى قبة البرلمان بحصوله على آلاف معدودة من الأصوات، في حين أن الذي يفوز في الدائرة الثانية من النوع المشار إليه يكون ممثلا لعدة مئات من الآلاف من المواطنين. أضف إلى ذلك ارتفاع فرص نجاح الزبونية والرشى العينية وغيرها في الأوساط القروية أكثر منها في الحواضر. ومن أسباب فساد العملية الانتخابية غياب الشفافية وحضور المال، فضلا عن التلاعب المباشر في صناديق الانتخابات في بعض الأحوال، إما لأسباب إدارية محضة وإما لضعف وإما لغياب ممثلي أحزاب لا تملك من الحضور السياسي ما يجعلها كفيلة بتمثيلها العملي في مكاتب التصويت. ومن تلك الأسباب أن الأحزاب السياسية تتساهل في إعطاء تزكية الترشيح باسمها للعديد من أصحاب المال والنفوذ من الذين يكون مبلغ طموحهم الوصول إلى المجلس التشريعي الأسمى من دون امتلاك عقيدة يؤمنون بها حقا، وبالأحرى أن يدافعوا عنها، فهم بالتالي عرضة للمغريات والضغوط من مختلف الأصناف (وعلى كل فقد حسم الدستور المغربي هذه النقطة، إذ وضع حدا لظاهرة الترحال السياسي، بمعنى الترشح باسم حزب سياسي ثم الانتقال سريعا إلى آخر غيره عند الوصول إلى البرلمان).
نعم، هنالك أسباب أخرى ترجع إلى الأحزاب السياسية في بعض الأحيان نذكر منها تفشي ظاهرة انعدام الديمقراطية الداخلية في الأحزاب وتفشي الزبونية وما في معناها مما يضعف العقيدة السياسية ويحمل على الشك في الممارسة السياسية والولاء للحزب، وبالتالي يدفع جهة تفشي الظاهرة الأكبر التي تعاني منها الحياة السياسية في المغرب، وهي ظاهرة العزوف عن العمل السياسي أو قلة الاحتفال بالحياة العامة والمشاركة فيها مما يجعل المشاركة في الانتخابات بالإقدام على التصويت تبلغ من التدني في بعض الجهات والأحوال نسبا تحمل على الخوف من المجهول والإشفاق على البلاد. كما أن هنالك نقدا ذاتيا تقوم به بعض القوى السياسية وإن كان ذلك يتم بكيفية جزئية وبكثير من المواربة مما يحيل النقد الذاتي إلى شعار أجوف خال من المعنى. كل هذه أسباب فعلية تسهم، في اجتماعها، في تفسير ظاهرة التشرذم السياسي والعجز عن إفراز قوى سياسية عظمى وبالتالي الوصول إلى الغاية المنشودة: تكوين حكومات قوية تتألف على أساس الانسجام الآيديولوجي والتقارب الشديد في البرامج السياسية الواضحة أكثر مما يكون النظام فيها التراضي والتوافق على مناصب حكومية ومواقع يتم فيها تبادل المصالح الحزبية بل المصالح الفردية الضيقة التي تلغي مبدأ الحزبية ذاته. بيد أن هنالك، في مقابل هذه المعطيات جميعها، حقيقة بسيطة تجملها قاعدة منطقية معروفة: الحديث عن التناقض يفيد أحد أمرين اثنين لا ثالث لهما؛ فإما أن التناقض موجود في فكر الشخص الذي يرى التناقض في وجود ما فهو يدركه من حيث إنه تناقض (وبالتالي فليس له وجود فعلي خارج فكر المتحدث أو المحلل)، وإما أن التناقض له وجود فعلي في الواقع. ووجه المماثلة عندي هو أن التشرذم السياسي (وبالتالي العجز عن إفراز قوى سياسية متناقضة وواضحة في الوقت ذاته) لا يرجع إلى كل الأسباب التي لمحنا إليها – متى أخذ كل سبب منها منفردا – بل إنه يرجع إلى معطيات واقع لا متوهمة.
ما صلة كل هذا الموضوع الذي يعلن عنه عنوان المقال أعلاه؟
تتبين لنا الصلة متى راجعنا الأسباب التي قضت بتصدر حزب العدالة والتنمية للانتخابات التشريعية المغربية قبل سنتين مع التشكيلة الحكومية التي انتهى إليها الشأن في مطلع السنة الماضية، ثم قارنا ذلك مع الصورة التي توجد عليها الآن الحكومة التي غدت معروفة بنعت حكومة ابن كيران الثانية. أما الإجابة المباشرة (والصحيحة في مجملها) فنجدها في الكيفية التي تمت بها ترجمة «الربيع العربي» في المغرب وما كان عنها من المسارعة إلى اعتماد دستور جديد يقترب، في جوانب غير قليلة منه، من المطالب التي حملها هذا الربيع في صيغته المغربية، وهذا من جهة، ثم في الدفع بالحزب المغربي ذي التوجه الإسلامي القوي ليكون في موقع الصدارة. هل كان بلوغ حزب العدالة والتنمية المرتبة التي بلغها نتيجة لما يصح نعته بالتصويت العقابي، ضد أحزاب أخرى كانت موضع انتقادات شتى، وخاصة تلك التي شاركت منها مشاركة فعلية في إدارة الشأن العام تحت رئاسة القائد الاشتراكي عبد الرحمن اليوسفي، أم أن الحزب الإسلامي يعكس واقعا سياسيا جديدا؟ نرى أن الإجابة عن هذا السؤال تتصل اتصال علة بمعلول، كما يقول المناطقة، وذلك بالإجابة عن السؤال الآخر التالي: هل الحكومة الحالية (ابن كيران 2) صدى لما عرفته أرض الكنانة منذ حركة 30 يونيو (حزيران)؟ ربما استوجب الأمر أن ندفع بالتصريح خطوة أكثر مباشرية فنقول: هل حزب العدالة والتنمية تعبير آخر، مغربي، عن جماعة الإخوان المسلمين ممثلة في حزب الحرية والعدالة في مصر وحزب النهضة في تونس؟
نجد أن هناك كيفيتين في الإجابة عن السؤال؛ كيفية أولى تقوم على معرفة ما إذا كان مجمل الشروط الاجتماعية والتاريخية في المغرب تجعل حركة تنتمي إلى البيت الكبير للإخوان المسلمين ممكنة، ثم ناجحة، أولا وأساسا أم لا؟ تلك قضية أخرى.