الحياة ورطة
يعترف يوسف الفرسيوي، الشخصية الرئيسية في رواية “القوس والفراشة” ( الفائزة بجائزة البوكر العربية)، بأنه إنسان منهك، وأنه قد أعلن الحرب على أوهامه وشرع في نفس الوقت يبحث عن معنى جديد لحياته. إنه ، بمعنى من المعاني، بطل إشكالي يسائل القيم التي تبناها وتلك التي تفرض نفسها على البلاد والعباد. هو مثقف ليست لديه مشاكل مادية و لا يحس بأي ذنب جراء ذلك. جرب الاعتقال وإن لم يجعل من تلك التجربة بطاقة ولوج إلى عوالم الوجاهة. عرفت حياته عدة رجات وترصده الموت في أكثر من محطة ( انتحار أمه، مقتل ابنه في عملية انتحارية بأفغانستان، موت صديقه، موته ، هو نفسه، ربما، في آخر الرواية حينما سعى إلى أن يحول دون أن يفجر أحدهم نفسه…). ولقد فقد لفترة حاسة الشم ليكون بذلك نقيض كرونوي، الشخصية الرئيسية في رواية “العطر”، التي كانت تتميز بحدة التقاط الروائح، و ربطته صلات من كل نوع مع نساء لسن عاديات يجمع بينهن كونهن على حافة انهيار عصبي. هو أيضا إنسان سخي، لا يبخل علينا بالخلاصات التي يصل إليها، يكره لغة الخشب و علاقته مع أبيه هي علاقة بالغة التوتر وقد و صل إلى اقتناع بأن الحياة ورطة، وتساءل كيف يمكن جعلها ورطة مقبولة. إن أقصى ما يطلبه يوسف هو أن يستمتع بمعجزات الحياة الصغيرة، بالتفاصيل التي لا نعي قيمتها إلا حين تغيب عنا أو يتهددنا الحرمان منها.
أما مسار الفرسيوي الأب فهو مسار استثنائي بنجاحاته الباهرة وسقوطه المدوي. بدأ مسثمرا مغامرا وانتهى يقود أجانب في موقع سياحي ويكشف لهم عن أسرار وتاريخ مدينة/ متاهة رغم عماه. لقد جاهد ليصبح من أعيان المنطقة فتحول إلى أحد منبوذيها، وإن كان ذلك لم يمنعه من أن يشفق على ابنه ويعنفه في نفس الآن.
وليلي وساراماغو
إن هذه الرواية هي رواية عالمة، رواية ذهنية، تمتح من وقائع وقعت بالفعل وأخرى متخيلة أو محلوم بها. ونفس هذا الحكم ينسحب عل الأمكنة والفضاءات التي يمكن أن نتعرف على بعضها والتحقق من وجودها كفضاء وليلي. وتعتمد الرواية كذلك على السجل البوليسي وتزاوج بين البحث الفكري والتحقيق الجنائي في مصير جثة عصام ومآل تمثال باخوس، وتتحدث عن الخراب والكارثة والفجيعة، وتحاور قامات إبداعية شامخة ( هولدرلين، ساراماغو الذي أصبح شخصية من شخصيات الرواية،. كابريرا إنفاتي)وتتأمل في أحوالنا السياسية وتحولاتنا الاجتماعية واحتباساتنا الثقافية بأصوات متباينة ( لغة يوسف الشعرية، سخرية الأب القاسية، لغة الرسائل…) واعتمادا على سجلات مختلفة ( السجل الواقعي، المحكي الشاعري، الحبكة البوليسية…)، وتوظف توظيفا جيدا موضوعة الكتاب المحتجب وتترك الشعر يتدخل لتهذيب عدوانية يصعب القبض عليها و ليمنح اللغة والأحداث قوة وألقا خاصة في لحظات الإحتقان أو البحث عن شفافية قصوى.
الكتابة باعتبارها وصفة
ويبرز في الرواية اهتمام بالمعمار ورهاناته، و بالمدينة باعتبارها فضاء وتصورا، ويتم التأكيد على رمزية القوس باعتباره إحالة على رغبة، لنصفها بأنها مشروعة، في اختراق المألوف وتكسير رتابته مقابل العمارة/الفراشة التي هي محاولة فظة لتطويع الواقع استجابة لشجع غير مبرر. وبذكاء تم ربط المدن ( مراكش، هافانا ، الرباط، وليلي) بحكايات شخصية وبنساء بعينهن، مع الاحتفاء بالجسد ومسراته و توقف عند فنون المطبخ ومتع الأكل مما يذكر برواية اليابانية بانانا يوشيموتو “مطبخ”. ويبقى أن القارئ يستمتع بقراءة “القوس والفراشة” ويستفز بعوالمها وإيحاءاتها ويحتفظ بالشيء الكثير من هذه العوالم والإيحاءات. وهو الأمر النادر عند قراءة رواية مغربية ربما لأن هذا العمل، كما جاء في حوار للمبدع محمد الأشعري مع مجلة “عن الكتب” في عددها الثالث، ” (…) تأمل في الانهيارات القديمة والطارئة، ومحاولة لوصف نهوض ممكن من وسط الأنقاض عن طريق استعادة التفاصيل المنسية، وبناء الحكايات والاستعانة بالحب للإفلات من قدرية التاريخ”.
*رواية “القوس والفراشة” لمحمد الأشعري المركز الثقافي العربي، بيروت/ البيضاء، 2010