نشر الصحفي العربي الكبير عبد الباري عطوان مقالا في موقعه في صفحة الفايسبوك حول التطورات في مصر. ويعتبر هذا ثالث مقال له له منذ مغادرته جريدة القدس العربي منذ أسبوعين، حيث اختار الفايسوك كمنبر رقمي للتعبير.
نص المقال:
أن يختلف البعض مع حركة الإخوان المسلمين ويشهر سيف الكراهية تجاههم ومعتقداتهم الدينية والسياسية، فهذا شأنه، بل وحقه المشروع، طالما تحلى بأدب الخلاف، لكن أن يحاول هذا البعض أن يترجم هذه الكراهية بدعم انقلاب عسكري، أطاح برئيس منتخب، ويجعل من قائده الفريق أول عبد الفتاح السيسي نسخة أخرى، ربما أكثر بياضا، ووطنية، من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، فهنا نختلف ونرفع الكارت الأحمر معترضين.
الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، كان صاحب مشروع تحرري، له شق داخلي عنوانه الإصلاح الزراعي والقضاء على الإقطاع واجتثاث الفساد، وتطبيق خطة تنمية صناعية ثقيلة وتحقيق الاكتفاء الذاتي في مختلف المجالات، بحيث يأكل المواطن المصري مما يزرع، ويلبس مما يصنع.
أما الشق الخارجي من المشروع الناصري، فكان عنوانه التصدي لحلف بغداد والمشروع الصهيوني في المنطقة، والاستعمار الغربي في العالمين العربي والإسلامي، ومساندة حركات التحرر في العالم بأسره، وتكوين التيار أو التكتل الثالث الممثل في دول علم الانحياز.
عشت عاما من عصر الرئيس عبد الناصر، أو بالأحرى العام الأخير (نوفمبر 69 إلى سبتمبر 1970) عندما توجهت إلى مصر بهدف الدراسة الثانوية والجامعية، وكان جميع المصريين سواسية تقريبا، يلبسون نفس الملابس، ويدخنون نفس السجائر، وينظفون أسنانهم بالمعجون نفسه، ويرتدون الأحذية نفسها وجميعها من صنع محلي وتستخدم خامات محلية، والبضائع المستوردة من الخارج كانت محصورة في شارع صغير في أحد أزقة القاهرة يسمى شارع الشواربجي لا يزيد طوله عن خمسين مترا، يضم “بوتيكات” صغيرة فيها بعض الملابس التي يهربها الى البلاد من كان يسمى في ذلك الحين “تجار الشنطة”.
الجمعيات التعاونية كانت تطفح بالأطعمة من مختلف الأنواع ابتداء من الدواجن وانتهاء بالأسماك واللحوم وبأسعار رخيصة مدعومة، وبعد وفاته وتولي الرئيس السادات مقاليد الحكم بدأ مسلسل الأزمات والحديث عن طوابير الفراخ أمام الجمعيات، وتضاعفت عدة مرات أسعار اللحوم، وانكمش حجم رغيف الخبز وساءت نوعيته.
الرئيس عبد الناصر انحاز للفقراء المعدمين، وفتح الجامعات أمامهم، ووفر لهم الوظائف والعيش الكريم وكان واحدا منهم في طعامه وشرابه ومسلكه، ويكفي انه عاش ومات دون أن يملك بيتا أو عزبة أو حتى استراحة.
حتى عداؤه للإخوان المسلمين الذي يستغله أهل الحكم اليوم لتبرير إطلاق النار على المعتصمين السلميين في ميدان رابعة العدوية فلم يتبلور إلا بعد إقدامهم على محاولة اغتياله أثناء إلقائه خطابا في ميدان المنشية في الإسكندرية.
السؤال الذي نطرحه بقوة الآن هو حول هوية مشروع الفريق الأول عبد الفتاح السيسي بشقيه الداخلي والخارجي، فعلى الصعيد الداخلي لم نر غير معاداته لحركة الإخوان المسلمين وتصميمه على إنهاء اعتصام رابعة العدوية السلمي بالقوة، والانحياز بالكامل إلى مجموعة من الليبراليين وتقسيم الشعب المصري إلى معسكرين، واحد من الشرعية الديمقراطية وآخر ضدها. معسكر مع الانقلاب العسكري وآخر ضده. أما على الصعيدين العربي والإسلامي فلم نسمع الفريق السيسي ينطلق مرة واحدة باسم فلسطين أو التصدي للمشروع الصهيوني، وتحرير القدس، أو دعم المقاومة، وكل ما سمعناه وشاهدناه حتى هذه اللحظة، هو إغلاق معبر رفح، وإن فُتح فلساعات محدودة جدا (أربع ساعات) ومن أجل الحالات الطارئة فقط، وتدمير الأنفاق التي كانت تشكل شريان حياة لأكثر من مليوني إنسان على جانبي الحدود مع قطاع غزة.
ربما يجادل البعض، بأن الفريق السيسي ليس رئيسا لمصر، وأن وظيفته الرسمية هي نائب رئيس الوزراء ووزير الدفاع وقائد القوات المسلحة، ولهذا من الظلم مطالبته بمشروع سياسي، وهذا صحيح نظريا، ولكنه عمليا هو الحاكم الفعلي للبلاد، وهو الذي وجه الدعوات للشعب للتظاهر، وعين الرئيس المؤقت ويتلقى التهاني من الزعماء العرب.
الرئيس عبد الناصر اتفقنا معه أو اختلفنا جعل من مصر دولة عظمى مهابة ومحترمة عربيا ودوليا، وحقق لها الاكتفاء الذاتي، وبنى جيشا قويا لها وللأمة العربية. وإذا لم يكن ديمقراطيا مثلما يتهمه البعض، وهذا صحيح، فأرجو أن تسموا لي دولة عربية واحدة غير لبنان كانت ديمقراطية قولا وفعلا في زمانه.
نحن مع مصر قوية موحدة وديمقراطية أيضا، يكون الخيار فيها للشعب مصدر كل السلطات. والحكم لصناديق الاقتراع.. نحن مع الحاكم المنحاز للفقراء والمعدمين الذين يشكلون الأغلبية الساحقة، وعندما يتبنى الفريق السيسي هذه القيم ويضعها على قمة أولوياته داخليا ويحقق لمصر الحرية والكرامة ويعيدها إلى مكانتها التي تستحق عربيا ودوليا، ودورها في دعم القضايا الوطنية العربية والإسلامية فلن يختلف معه إلا أصحاب الأجندات الخارجية التي لا تريد لمصر وللأمة العربية والإسلامية إلا الدمار والخراب.
نتمنى أن يكون الفريق السيسي عبد الناصر جديدا، ولكن عليه أولا أن يقرأ تاريخ الرجل جيدا، ويستفيد من تجربته وايجابياتها، ويتجنب أخطاءها في نظر خصومه وأولها أو بالأحرى على رأسها، عدم ارتكاز حكمه على قواعد ديمقراطية راسخة تحترم الإرادة الشعبية.