يكاد القارئ مِنّا لا يَعْثرُ على أثرٍ لفكرٍ ضمْن أكوام الأوراق التي سُوِّدَت بالرّسم العربي في مُختلف حقول المعرفة على مدار القرن العشرين إلى اليوم. وإذا ما حصَل أن انْبَهْرنا بمقال أو اسْتَهْوانا قلمٌ فعَمَدْنا للنهل من مَعِينه، لا نُصَادف تحت القشور إلا نقولا ونقولا ونقولا .. من كتابات السّلف أو اقتباسَاتٍ بالحَرْف من أفكار الآخرين. وباستثناء بعض الاجتهادات النادرة، ليس هناك ما يُمكن نعته بين النقول بـ “الفكر العربي المعاصر“.
فما أن بَحَّت أصوات رواد الإصْلاح مُنبّهة على أهمية مدّ الجسور إلى ينابيع فكر السَّلف الزّاخِرَة بأصناف العلوم والآداب والفنون أمَلاً في عوْدة الدّفئ إلى شرايين حضارتنا الهامِدَة، حتى انْتَصَبَت مآذن الدّعاة مُتَعَلقة بآخر ما اسْتجَدّ لدى الغير من مناهج العلوم، بدْءًا بالشك الديكارتي والفِنُومِنُولوجيا وانتهاء بالمادية الجدلية والتحاليل البنيوية، إلى ما عدا ذلك من المدارس الفكرية.
وبين العجز عن استيعاب الأصول المُتراكِمَة على مدار قرون من العطاء الفكري بدار الإسلام وعدم القدرة على تطويع المناهج الحديثة المُتسارعة الوتيرة لدى الأمم، ظل ما يُعْرَف تجاوُزا لدى أشباه العُلماء بـ”الفكر العربي المعاصر” مُجَرّد تطبيقات ابتدائية في حقول معرفية. وبقدرما ظلت مشاريعهم المفتوحة مُتَنَاسِلة بأكْوَامٍ من الأوراق الحُبْلى بالقراءات والخطابات والتحليلات والتصَوّرات والمواقف، لم تتمَخّض بزبدة عِلمٍ تُمْسِكُ رَمَق الناس.
وبعدما استفحل الدوَرَان، إن لم يكن الهَذَيَان في حلقات مُفرَغَة وبلغ الاجْترار مَدَاه وتساقطت المآذن المُنْتًصِبَة الواحدة تِلو الأخرى، من الطبيعي أن تضج أصوات زعانف الأسواق بالدعوة إلى “تطبيق الشريعة” يقينا من عقولٍ مُنْفَعِلة بسُهولة الخلاص من الوَرْطة الكبرى. ولا فرْق بين مشاهير مَنْ انتَصَبوا “علماءَ” في ديارنا و”جهلة العامة” وكِلاهما مُسْتَكِينٌ لـ”تطبيق” فكر الآخرين أو شرائعَ جاهزة، وما طمَحَت هِمَمُهم يوْمًا إلى الاجتهاد في استنباط حُكْم أو بَذل العُمُر لاكتِسَاب عِلْمٍ.
ومما يبعث على الأسى أن تنقطع السّبل بتلك النخبة العالية القدر من المغاربة الحاذقين في أدق مجالات العلم والاختراع والابتكار وقد ظلوا يهيمون على وجوههم طلبا لرغيفهم في البلدان وتوظيف معارفهم في مختبرات الآخرين وذكائهم في مراكز البحوث لدى الأمم فيظلون أبَدَ الدّهر نَكِرَة في أوطانهم. ويَعِزّ علينا أن نشاهد أمثال ذاك الوجه المُشرق نُورًا لفتاة مغربية تحظى بتقدير شعوب العالم على موْهبتها المُكتَسَبَة بالاجتهاد في تجويد القرآن، ولا يلتفت إليها مواطنو بلدها المُنْبَهِرين بالتفاهات. ولا تخفى الاستقبالات الحافلة لذاك الصّنف الرّديئ من المَوْسُومين تجاوزا “بالفنانين والفنانات” مِمّن لا يُتْقِنُ نظْمًا ولا يُحْسِن فنّا من فنون الغناء والسّماع والرّقص والانكسار فيَسْتَعِينُ بالكشف عن الأرْداف لاثارة الغرائز واسْتِهْوَاء الأذواق الفاسِدة وبالهَرَج المَارج لاسْتِرْعاء انتباه الغوْغاء. ويبدو أن نُكْرَان كلّ ما يتصل بالعلم والحِكْمة والآداب والفنون والتشهير بكل ما يلتصق بالهَرَج والمَرَج والعرْبَدة قد أصبح في ظل اختلالات العصر “سياسة” رائجة الأرباح.
وبصرف النظر عما يتعلق بمختلف الحقول من معارف نظرية وعمَلية أو علوم إنسانية التي نُرْجئ استحْضَارها إلى مقام آخر، يَحِقّ للمَرْء أن يتساءل ـ وإن بحَسْرة وأناة ـ وهل بين هؤلاء المُنْتَصِبين اليوم للنظر في الشرائع بديارنا مَنْ هو مُتَفَقّهٌ بعلوم الدين وعالِمٌ بأمور الدُنْيَا؟ ومعلوم أنه لا يصِحّ أن نَنْعَت أحدهم بـ”الفقيه المُقلد” إن لم يكن على دِرَايَة بما صَدَر عن عُلماء الأمة من تفاصيل في مختلف أبواب الفقه ودقائق ما طُرِحَ على “الفقهاء المُشاوَرِين” من قضايا على مدار تاريخ الإسلام، ضمن المذهب الذي يُقَلّدُه. أما أن ننْعَت أحدهم بـ”الفقيه المُجْتَهد” الذي بمَقْدُورِه اسْتنباط الأحكام واسْتِصْدار الفتاوى فتِلك درجة عالية بل “الأعْلى في العلم على وجْهِ الإطلاق” التي قلما تجتمع شروطها في شخْصٍ أو في زمان.
وغني عن البيان أن أهل المغرب قد ظلوا منذ بدْءِ عمَلهم بشرائع الإسلام على “مذهب أهل الاستقامة والاقتداء” بالسّلف موصولا بـ”مذهب مالك“، ما تخَلوا في ماضيهم عن الاسْتِرْشَاد بمُقتَضَيَاته، وقد ألحّ حكماء أجدادنا على وصاية الأبناء والأحفاد أنّ “الاسْتِمْسَاك به نجاة” من الغُلوّ الفِكْري والتشرْذم الطائفي. ولنتأمّل ملاحظة أحد مشاهير فقهائنا إذ صرّح أن “جُلّ من يعتقد مذهبا من مذاهب الفقهاء فإن فيهم الجهمي والرافضي والخارجي إلا مذهب مالك فإني ما سمعت أن أحدا تقلد مذهبه قد قال بشيء من البِدَع“.
وإذا كان المغاربة قد ظلوا على مَرّ العصور مُسْتمْسِكِين بعصا النجاة، فلا يصِحّ أن نسْمَح لزعانف عصرنا أن يُكَسّروه اسْتِخْفافا بالأصول واغترابا عن الذات أو طيْشا في متاهات الجهْل. ولا يخفى عن عاقلٍ كيف يعْمَد المُتَحَكّمون في مصير الأمم إلى تحريك الخيوط في الدهاليز المُظلِمَة للعَبَثِ بتماسك كياناتنا بجرّ العامة المُنقادين لـ”فقهاء السّوء الناعقين” إلى التناحر على أسس طائفية. وكمْ كان أبو الحَسَنين علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه بليغا في وصف أمثال هؤلاء بكونهم: “هَمَجٌ رعاع، أتباعُ كلِّ ناعِقٍ، يَمِيلون مع كُلِّ رِيحٍ، لم يسْتَضِيئُوا بنورِ العِلم“. وها هي نتائج التشرْذم الطائفي المُرْعِبَة تُغْرِق أهلنا سُنّة وشيعة في مُسْتنقع لا مَخْرَج منه، بدْءا بلبنان فالعراق واليمن وسورية والبحرين .. ويبدو أن ما يُسْتحضر في مطابخ الأمم لمُسْتقبلنا مِمّا خفي عن أنظارنا أعْظَم.
ويتعجّب المُتَعلم مِنّا، بل ومِنْ حق العامي أيضا أن يتساءل: وكيف أصْبَحت الأحكام وقضايا التشريع والفتوى ـ على جلالة قدْرِهَا وخطورة شأنها ـ حقلا مفتوحا يخوض فيه كلّ من هبّ ودبّ من الجهلة الأغمار والزعانف المُسْتَطيلي اللسَان بالهذر؟ ويزخر التراث الفقهي المغربي بآلاف الدّرر الكفيلة بوقف باب الخوض في كثير مِمّا يحلو لمُتصيّدي الفُرَص نشره في وسائل التشهير المُعَوْلَمَة. وأكتفي في هذا المقام بالإحالة ـ على سبيل المثال ـ على شاب مُسْلم وقف فيما مضى أمام القاضي “فذكر أنه بَدَا له عن الإسلام، فامْتحنه فوجده مُصِرّا على ما قال“؛ وبدلا عن “تطبيق” ما يُسَمّيه زعانف عصرنا بـ”الشريعة“، فإن الفقهاء المُفتون بمذهب مالك أشاروا على القاضي بالقول: “فإن أصرّ خليّتَهُ في سخط الله عَزّ وجَلّ، فليس بأوّلِ مَنْ أغواه الشيطان“.
ويتبادر إلى الذهن أيضا كيف نجح كاتبٌ مغمور بواسطة قصة بئيسة من صُنْع خياله في تحريك ملايين الخلق في مظاهرات عارمة هزّت معمور الأرض فانْتَصَب كبار “أئمتنا” لاسْتصدار الفتاوى بإهدار الدم ووقفت شعوب ودول على خط المواجهة يُحرّكها الاعتقادُ ـ جهْلا بالأصول ـ أنها قد هبّت لنصرة الإسلام. وتتكرّر الحوادث المُمَاثلة بخربشات كاريكاتورية رديئة تبْحَث عن أضواء كاشفة في وسائل التشهير العالمية، فتتحرّك الدّهْماء بالملايين في بلاد المسلمين مُعْتقدة أنها قد هبّت لنصرة المصطفى الأمين؛ وحاشى أن يكون سيّد البرية بحاجة إلى هؤلاء المُنْدَفِعين وراء الناعِقِين في أبواق مُشْرَعَةٍ بالضجيج العالي تمَوّلها بسخاء أيادي المُنَافقين الآثمة.
إنها بالونات اختبار لدرجات الضلال في شِعَاب الجَهل بآيات الله الساطعة وبِقُدْرَة المُتَحَرّكين في الظلام على تسميم الأجواء بديارنا والدّفع بأهلنا إلى شفا الهاوية. وما أشبه هذا المصير الذي آلت إليه أحوالنا بالوَصْف الذي خصّ به أحد قدامى الحكماء انهيار حضارتنا بقوله: “اشتد البلاء بأهل الإسلام، خاصة فيمَا بيْنَهُم، فإن الكلُّ على الكلِّ، في القريب والبعيد والمُولَى عليهم، بعضُهم لبَعْضٍ فِتْنَة، وبعضُهم على بعْضٍ نِقْمَة، بفساد دينِهم ودُنْيَاهُم وعيْشِهِم“.
وفي تواريخنا الزاهرة ما يُقدّم ألف مثال ومثال على مواقف الفقهاء المُسْتَرْشِدِين بكتاب الله وقد وسِعَت رحمته كل شيء، المتأمِّلين سُنَنَ نبيه المصطفى الأمين الذي كان على خُلُقٍ عظيم، المُسْتوْعِبِين آثار العلماء من سلف الأمة في معالجة ما قد يُصَادِفُونه من مسائل تستدعي الفتوى. أليس في دار الحديث بالعاصمة والهيئة المُشرفة على الشؤون الدينية وشُعَب الدراسات الإسلامية بجامعات المملكة والمجالس العلمية المُنْتَصَبَة في طول البلاد وعرْضها من المختصين في الشرائع والأحكام من يُذَكّر الغوغاء بالحدود الفاصلة بين الاستقامة والضّلال؟ أليس من واجبهم وهم يتقاضون مُرَتّبات عُليا من خزينة الدولة تذكير الناس وإرشاد الحُكام بمواقف مشاهير فقهاء المالكية في مثل هذه الحالات، ونحْن على مذهبهم؟ أليس في تاريخنا من نوازل الأحكام ما يُقدّم النّبْراس للاسْتنارة بأعمال السّلف في مثل هذه الحالات؟
فكم هُم المُسْتَخِفّين بالنبي (ص) من أهل الديانات الأخرى الذين اندفعوا فيما مضى وهم في كنف دار الإسلام للسّب والقذف في حقه على مَسْمَع ومرآى من عامة المسلمين وهُمْ في عِزّ دولتهم؟ أكْتَفِي في هذا السياق بذِكْر حادث الاستخفاف بالنبي (ص) في حضرة أحد فضلاء القضاة وقد أتاه “رجل من النصارى مُسْتَقتِلا لنفسه فوَبّخه القاضي وقال له: ويْلك مَنْ أغْرَاك بنفسه أن تقتلها بلا ذنب!..” وبَدَلا عن إصدار الحُكم بإعدامه، قلل من شأنه واسْتهزأ من جُرْأته على نفسه مُكتفيا بنصْحِه. فشتّانَ بين كبار فقهاء المغرب المُجتهدين في علم الشرائع والأحكام وهؤلاء الزّعانف المُطالِبين بتطبيق الشريعة وهُمْ يقتلِعُون نصوصها من سياقاتها قلْعًا ويفْصِلُون ظاهِرَ معانيها عنْ جَوَاهر مقاصِدِهَا جهْلا فيَرْتكبون أفضع الجرائم.
أليس هناك أوضح دليلا على درجة الهَوَان التي أصبحت عليه أحوالنا نتيحة عدم اكتراث ذاك الصّنف من “المُتَفَقّهين” ممّن لا يُدْرِكُ كُنْه علوم الشريعة، ولا جوْهَر الدين. وإذا ما تأمّلنا حقيقة المُقْتَحِمين علينا بيوتنا ومقاهينا في وسائل التشهير المُضِلة والمُشِعّة بالتفاهات في أنحاء المعمور نجدهم أقرَب إلى الوصف الذي خصّ به أحد قدامى الحُكماء أمثالهم بقوله: ولا يكون إلا “مُقِلاّ في العلم، بريئا من البلاغة، جِرِّيئا على الخطابة بإيراد ما حَفظه مِنْ قَوْل مَنْ قَبْله، يُطِيل الكلام مع ذلك فيَخْرُج عن الغرَض المقصود“. فلنتساءل، وهل ما زالت بلادنا فعلا مُسْتَمْسِكة بمذهب مالك، حتى نطْمَئِنّ على مستقبل أهلنا؟
لا تخفى مكانة المساجد الجامعة في ديارنا باعتبارها بيوت الله الطاهرة من الآثام، حيث يسْعى المؤمن للتقرب من خالقه بالعبادة ومعرفة الحق سبحانه وتزكية النفوس وتهذيب الأخلاق وتنظيف الهندام. وباسْتثناء واجب الدعوة لأمير المؤمنين في خطبة الجمعة لِمَا فيه صلاح المسلمين كافة، لا يصِحّ لأي كان: داعِيةً أو جماعةَ أو حزبًا أو هيئة تحويل المساجد من دُورِ عِلْمٍ وعبادة يَؤُمُّها المُصَلون للذّكْر والاقتباس من نور الله وحِكْمَتِه إلى بُوقٍ لترويج الأخبار والمقالات أو سُوقٍ للتكسُّب والتجارات.
ونظرا لجلالة مكانتها منارًا لعامة الناس وخاصتهم في بوادي المغرب وحواضرهم، فقد ظلت على مدار نحو ثلاثة عشر قرنا ونيف تحت إشْرَاف أدرى الناس بأمور دينهم وأفقههم في شؤون دنياهم. ولا يخفى كيف دأبَتْ جامعة القرويين العتيقة وغيرها من مدارس العلم بالبوادي والمدن على توفير أمْتَن تكوين لأئمة المساجد المُسْتَظْهِرِين لكتاب الله وأحاديث نبيّه وأقوال العلماء، المُلِمّين بمختلف العلوم الموروثة عن قرون عِزّ العطاء الحضاري. وقد ظل خطباءُ المغرب إلى عهد قريب يُحرّرون خُطَبَهم ببليغ الكلام وِفْقَ مقتضيات الأحكام الجارية في البلد، وهم الأقرب إلى نبض الناس واحتياجاتهم الرّوحية.
وما دامت المساجد مفتوحة لاجتماع ملايين الناس على مدار الساعات، فسُرْعان ما دبّ دبيب المُتحرّكين من مختلف الألوان لنشر مذاهبهم والترويج لمقالاتهم وتسْريب بياناتهم، بما يُؤذِنُ بتحويل بيوت الله إلى منابر للمُسوّسِين والمُتَسَوّقين بالدين وطلاب الحُكم، في أردأ انكسار للقيم في حضارتنا. وشيئا فشيئا شُلت قدُرَات الأئمة وتشعّبَت بهم المزالق في سياق اختلالات العصْر المُدْلَهِمّة. ويعزّ علينا أن نسْتمع إلى الخطباء وقد انْخَرَطوا في الإعلام بِبَدْء الدخول المدرسي أوفي حَمَلات الوقاية من حوادث السّيْر أو بدْء التسجيل في اللوائح الانتخابية أو ماعدا ذلك مِمّا يسْتجِدّ من قرارات في مكاتب الوزارات، وكأن المصالح الحكومية والأحزاب لا تكفيها وسائل الإعلام المكتوب والمرئي والمسموع التي تلتهم الملايير من ميزانيات الدولة، فتسْتكْمِلُ بأئمة المساجد المغلوبين على أمْرِهِم عمل أجهزتها الإدارية الرّديئة.
وأي فرق بين مَنْ يتسَوّق بكلام الله وفي بيوته لتحقيق غرَضٍ شخصي أو حزبي أو وزاري وبين ملايين الباعة المُتَحَلقين بأبواب المساجد يبيعون عطورا مكية وكتيبات بئيسة وأسطوانات ردئية، وقد اختلطوا بالمتسَوّلين وذوي العاهات المُسْتَدِرّين لعطف المُصَلين، وملأوا الفضاء ضجيجا وازْدَحَموا في المداخل مُعَرْقِلِين حركتهم في أبلغ منظر كاشِفٍ عن عورة المسلمين في يوم جمعتهم العظيم. ومن البديهيات المتعارفة خلال القرون الماضية أن من واجب المُحتسب بمدن المغرب “منع المساكين من التسول أيام الجمع بالمسجد الجامع بما يزعج المصلين“. أليس في تاريخنا ما يقدّم أبسط مثال على درجة استخفاف هؤلاء الموكول إليهم تنظيم شؤون مساجدنا براحة المواطنين، ونحن في عِزّ القرن الواحد والعشرين؟
إن المغرب والمغاربة ليسوا بحاجة لخطاب ديني ولا لدعوات متهافتة، بل هم في أمسّ الحاجة إلى تحصين عقيدتهم والذوْد على مذهبهم المالكي واسْتِرْجَاع مكانته نِبْرَاسًا لأحكامهم. ولا يتحقق ذلك بمجرد إخضاع المساجد لسلطة إدارية أو مراقبة عمل الأئمة، وإنما برفع مستوى الفقهاء واسترْجَاع مكانتهم بين الناس، إلى حدّ بلوغ نُخَبِهِم العلمية درجة الاجتهاد في استنباط الأحكام، بما يَكْفل لشرائعنا القُدْرَةَ على مُواكبة تطورات العَصْر المُتَسَارعة. ولن يكون ذلك مُتاحًا بالاسْتكانة لذاك الصّنف الذي وسَمَه أحد قدامى علماء المغرب بـ”الفُسّاق المُنْتَسِبِينَ إلى الفقه، اللابِسِين جلود الضأن على قلوب السّباع، المُزَيّنِين لأهل الشرِّ شرَّهم، النّاصِرِين لهُم على فِسْقهم“.
واضح أن المؤسسات الدينية والمجالس الموسومة جَدَلا بالعلمية التي وُكّل لها هذا الشأن هشة إلى حد مُخيف. أما النّخب الفكرية فغير قادرة حتى على إقناع نفسها فبالأحْرى أن تُوَاجِه الأمواج المُتلاطِمَة بالخِطابات المُغْرِضَة وقد انْتَصَب لها الدّجالون في وسائل التشهير المُعَوْلمة. إنها أبعد ما تكون عن هداية أجيال المتعلمين في المدارس والشباب المُتَهَوّرين في دروب الغواية وأعجز عن ضمان التوازن الرّوحي للتائهين من أهلنا في ديار الغربة. وها نَحْنُ نُعَايِنُ ـ مشلولي الأطراف ـ كيف يتمّ اختراق نسيجِنَا الفكري بِمَا يُهدّد في الصّميم كيان المغرب الحضاري.
لا أدري هل ما زالت بين أيدينا القُدْرَة على إعادة ربْط حاضرنا بالأصول واسْتِدْرَاك تسعة قرون مضت من التخلف عن ماضينا وخمسة قرون من التخلف عن مواكبة عصْرنا. وأتصور أن أول خطوة على هذا السّبيل تكون بإنشاء جامعة راقية المُسْتوى ـ مضمونا وتأطيرا ومنهجا ـ لتكوين الفقهاء في علوم الشرائع والأحكام وِفْقَ مذهب مالك والأئمة خطباء المساجد والمُتَكلّمين المتناظرين مع أقرانهم من أهل المذاهب والديانات الأخرى في قضايا الدين والخلق والوجود. ولا سبيل لنا للخروج من المُسْتنقع الرّهيب الذي أحاط بأهلنا إلا الاسْتِمْسَاك بقبَسِ العلم، ففي نوره ما يَفْتَحُ طرُق النّجَاة.
الدكتور أحمد الطاهري
أستاذ التعليم العالي، مختص في تاريخ المغرب والأندلس
إشبيلية يوم الثلاثاء 21 ماي 2013