أصدرت مؤسسة “التحليل والدراسات الاجتماعية” التي يشرف عليها رئيس الحكومة الإسبانية الأسبق خوسي ماريا أثنار الكتب الأولى لسلسلة تحمل اسم “سيرة سياسية” تتحدث عن السياسيين الليبراليين في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين الذين تعتبرهم هذه المؤسسة بناة اسبانيا الليبرالية ودافعوا عن قيم الحرية. ويتعلق الأمر بكل من فرانسيسكو سيلفيلا الذي كان رئيسا للحكومة خمس مرات، والثالث هو كانوفس ديل كاستيو . والقاسم المشترك بين هؤلاء إضافة الى أنهم ليبراليين ومحافظين، فقد كانت لهم كتابات حول المغرب وساهموا في قرارات تاريخية حول هذا البلد ابتداء من حرب تطوان الى حروب الريف والجزيرة الخضراء. ويبقى كانوفس الشخصية اليارزة التي يمتد نفوذها الى اليوم على الحزب الشعبي والرؤية نحو السياسية والفكرية تجاه المغرب.
اهتمام بالأحداث على حساب الفكر
عادة ما يركز المؤرخون في تناولهم للعلاقات المغربية الإسبانية على الأحداث الكبرى مثل حروب الريف والحماية ويتم تجاهل دور العامل الفكري في تحريك العلاقات خاصة من طرف الإسبان. وتاريخ هذه العلاقات يزخر بسياسيين-مفكرين طبعوا مسارها وتركوا بصمات واضحة في تاريخ المغرب وإن كان التأريخ المغربي يجهلهم بشكل كبير. ومن ضمن هؤلاء السياسيين المفكرين، أنتونيو كانوفاس ديل كاستيو الذي كان رئيسا للحكومة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر ويعتبر عراب اليمين الإسباني والأب الروحي لسياسيين من طينة الجنرال فرانسيسكو فرانكو ورئيس الحكومة السابق خوسي ماريا أثنار الذين نهلوا من أفكاره في سياستهم الخارجية تجاه الجار الجنوبي، المغرب.
كانوفس واهتمام خاص بتاريخ المغرب
في قلب مدينة مالقا الأندلسية وقبالة القصبة العربية الضخمة المنتصبة فوق هضبة تطل على المدينة يوجد تمثال أنتونيو كانوفاس ديل كاستيو السياسي والمفكر اليميني الذي يعتبر مجدد الفكر السياسي الديني الذي أرسته إيزابيلا الكاثوليكية التي وضعت حدا للسلطة الإسلامية في الأندلس سنة 1492 عندما قضت على حكم بني الأحمر في غرناطة. وعبر هذا التمثال، تكرم مالقا أحد أبنائها المرموقين الذي ترك بصمات واضحة وعميقة في تاريخ اسبانيا خلال القرن والنصف قرن الأخير. وهذا التمثال لهذا السياسي الذي ولد في مدينة مالقا يوم 8 فبراير 1828، هو واحد من التماثيل الكثيرة التي خصصت له في الكثير من ساحات بعض مدن اسبانيا.
واهتم كانوفس منذ صغره بالمغرب، وساعدته طبيعة مالقا كمركز للتبادل التجاري مع المغرب في المزيد من التعرف على الجار الجنوبي. وتزامن هذا الاهتمام مع بروز ظاهرة الاستشراق في أوروبا واسبانيا، حيث يعتبر فرانسيسكو خافيير سيمونيت المالقي من رواد الإستشراق الإسباني. وكان كانوفاس شغوفا بمؤلفات هذا المستشرق الذي كانت له نظرة غير ودية تجاه المغرب.
احترف السياسة منذ صغره، وانضم سنة 1854 إلى حزب الاتحاد الليبرالي وفي السنة نفسها أصبح نائبا برلمانيا عن مالقا، حيث عرف عنه اهتمامه بالعلاقات مع المغرب في البرلمان. وكان لحرب تطوان سنتي 1859-1860 دورا رئيسيا في تعزيز اهتمامه بالمغرب. فهذه الحرب كانت منعطفا في تاريخ العلاقات الثنائية ونقلت العلاقات المغربية-الإسبانية من التعاطي القائم على أسس مفاهيم العصور الوسطى إلى أسس السياسة الحديثة القائمة على مفهوم العلاقات الدولية.
وكنتيجة اهتمامه القوي بالمغرب وبفضل حضور المغرب في النقاش السياسي الإسباني، ، سيصدر كانوفس ديل كاستيو كتابه الشهير “معطيات حول تاريخ المغرب” سنة 1860. ويعالج الكتاب تاريخ المغرب والعلاقات مع اسبانيا ويؤسس من خلاله النظرة المستقبلية لهذه العلاقات القائمة على فكرة جوهرية تتجلى في “ضرورة احتلال أجزاء من المغرب وإبقاء هذا البلد تحت السيطرة حتى لا يهدد اسبانيا مستقبلا”.
أطروحة استعمار المغرب
لقي الكتاب إقبالا كثيرا من طرف الإسبان، وتحول إلى مصدر رئيسي لمعرفة الجار الجنوبي، كما اختلف كثيرا مع رئيس الحكومة الجنرال أدونيل قائد الجيش الإسباني في حرب تطوان، فهذا الأخير اكتفى باحتلال تطوان سنة 1860 دون باقي مناطق شمال المغرب، بينما كان كانوفاس يعتبر حرب تطوان بمثابة الفرصة التاريخية لإسبانيا لاحتلال أجزاء كبيرة من المغرب واستعادة عظمتها عندما كانت إمبراطورية. والفقرات المأخوذة من كتابه “معطيات حول تاريخ المغرب” تلخص فلسفته السياسية الاستعمارية ونظرته نحو المغرب التي ورثها عنه سياسيون لاحقون، وتقول الفقرات:
“منطق التاريخ الذي نلاحظه عبر القرون في المغرب الأقصى يبرز بوضوح أن الشعب الغازي الذي ينجح في السيطرة على ضفة من ضفتي مضيق جبل طارق، سينجح في السيطرة على الضفة الأخرى. وهذا المنطق سيستمر. وإذا لم تكن لدينا شجاعة كافية أو ذكاء كافي لفرض الهيمنة على الأمم الأخرى فيما يخص الحدود البحرية، فسيصل بدون شك اليوم الذي سنفقد فيه استقلالنا وستندثر جنسيتنا وربما إلى الأبد. هناك أمامنا (الشاطئ المغربي)، توجد بالنسبة لنا قضية حياة أو موت، لا يمكن نسيان ذلك، لا يمكن غض النظر، فيوم الحسم سيأتي، وإذا لم نبادر بالحل، سيتولى غيرنا ذلك بكل طاقتهم. ففي الأطلس توجد حدودنا الطبيعية وليس مضيق جبل طارق الذي يجمع بين البحر المتوسط والمحيط الأطلسي”.
وبعد حرب تطوان، تولى كانوفس لفترة محدودة منصب الحاكم العالم لمدينة قادش التي كانت نقطة ربط رئيسية بين المغرب وأوروبا، ومكنه منصبه الجديد من تعميق معرفته بالمغرب، حيث كان يستقبل الكثير من مبعوثي السلطان المغربي وقتها ويسألهم عن أدق تفاصيل الحياة الثقافية والسياسية المغربية.
ويؤكد المؤرخ أنتونيو روم ودي أرماس عضو أكاديمية التاريخ الإسبانية أن كانوفس ديل كاستيو يعتبر أهم سياسي في تاريخ اسبانيا الحديث وربما الأبرز طيلة القرن التاسع عشر بحكم المناصب التي تولاها وإرساءه لمفهوم “الاستقرار السياسي” أو ما يعرف في اسبانيا ب “Restauración، وتقوم على ما يلي:
أولا: إرساء نظام ملكي قائم على مفهوم الملكية الدستورية وبقبول الشعب وليس مفروض بواسطة الجيش.
ثانيا: تناوب سياسي على الحكومة بين الحزب الليبرالي المحافظ بزعامة كانوفاس والحزب الليبرالي المندمج بزعامة براكسديس ماتيو سغاتا.
واستطاع كانوفس سنة 1876 إصدار دستور على مقاس رؤيته للوضع السياسي، كما تولى منصب رئيس الحكومة الإسبانية ست مرات بشكل متقطع منذ 1876 حتى وفاته مقتولا سنة 1897 على شاب إيطالي انتقم من إعدام الحكومة لبعض اليساريين. وطيلة هذه المدة، كان يضغط بشكل كبير على السلطانين الحسن الأول ثم مولاي عبد العزيز لكي يقدم المغرب تنازلات ترابية في سبتة ومليلية المحتلتين، فقد كان وراء أغلب حروب الريف إبان الربع الأخير من القرن التاسع عشر بسبب نهجه سياسة توسيع محيط المدينتين المحتلتين. وفي الوقت ذاته، كان يطالب بغرامات مالية كبرى كلما تعرضت المدينتين لهجوم من طرف المقاتلين المغاربة. ويعتبر مهندس مؤتمر مدريد سنة 1880 الذي مهد لاحتلال المغرب من خلال اعتماد ونهج سياسة المحميين.
كانوفس الأب الروحي لفرانكو وأثنار
وفي كتابه “كانوفس واليمين الإسباني” الصادر سنة 2008، يبرز الأستاذ الجامعي خوسي أنتونيو بيكيراس التأثير الوازن والمستمر لكانوفس ديل كاستيو على الفكر اليميني الإسباني حتى وقتنا الراهن. ويكتب في هذا الصدد، أن معظم زعماء اليمين خلال القرن العشرين تأثروا بأفكار كانوفاس الغارقة في الوطنية المتشددة. وتتجلى في تعزيز دور الدين المسيحي كمرجع للممارسة السياسية والعمل من أجل ما يسمى عظمة اسبانيا. وحول النقطة الأخيرة، فالجنرال فرانسيسكو فرانكو تأثر بأطروحة كانوفس تجاه المغرب وينطبق الأمر نفسه على رئيس حكومة السابق خوسي ماريا أثنار. فكانوفس كان يؤكد على احتلال المغرب أو جعله دائما ضعيفا. أطروحة كانوفس تجاه المغرب هي السائدة لدى جزء من رجال الدولة في اسبانيا، ليس فقط من اليمين بل كذلك من طرف بعض اليساريين وخاصة المؤسسة العسكرية.
رحل كانوفس سنة 1897، لكنه حاضر بقوة في العلاقات المغربية-الإسبانية بسبب إيمان جزء من المسؤولين الإسبان بأفكاره تجاه الجار الجنوبي. فهو يعتبر مؤسس الفكر الاستعماري الإسباني الحديث تجاه المغرب، الحلقة الرئيسية بين وصية إيزابيلا الكاثوليكية في القرون الوسطى التي تنص على احتلال المغرب والفكر الكولونيالي الذي استعمر شمال المغرب ويستمر في اعتبار المغرب مصدر الخطر المحدق بإسبانيا في وقتنا الراهن.