خلال هذه السنة التي سيتم توديعها، 2025، أصبحت أوروبا تقترب من نسخة شبيهة بأوكرانيا نسبيا، وأصبحت الأخيرة بدون بوصلة مثل أوروبا. وذلك لأن القارة الأوروبية سجلت أسوأ سنواتها الجيوسياسية بعدما بدأت واشنطن تتخلى عنها بموجب وثيقة الأمن القومي الاستراتيجي، وتضغط روسيا تدريجيا لتخلق حالة من القلق شبيهة بما فعلته مع أوكرانيا سنوات قبل الغزو في فبراير 2022. ويجري كل هذا في وقت ينتعش فيه اليمين القومي المتطرف الموزع الولاء بين موسكو وواشنطن.
وعمليا، كانت أوروبا في سنتي 2023 و2024 تدرس كيف ستتحول الى قوة عالمية تنافس الولايات المتحدة والصين، ووضعت برامج عديدة لمنافسة الصناعة العسكرية الأمريكية ومخططات اقتصادية لمنافسة طريق الحرير الصيني. وتراجعت كل هذه المخططات سنة 2025 بما فيها دور أوروبي نشيط في السلام في الشرق الأوسط وإعادة بناء العلاقات مع دول جنوب البحر الأبيض المتوسط، بل أصبحت هذه السنة التي ستنتهي الأسبوع المقبل منعطفا بطعم الانتكاسة لأن الهدف أصبح هو كيفية مواجهة روسيا العسكرية وكيف ستتعامل مع أمريكا الترامبية.
أوروبا في ثوب أوكرانيا أمام روسيا
وهكذا، كانت أوروبا كتكتل مجسدة في الاتحاد الأوروبي رفقة دول أخرى مثل بريطانيا والنرويج تتحرك حتى مطلع 2025 كقوة ضاغطة في مواجهة روسيا بسبب غزو أوكرانيا لإجبار موسكو على الانسحاب من أراضي شرق أوكرانيا وتعويض كييف عن الخسائر المترتبة عن الحرب. غير أن أوروبا وجدت تدريجيا نفسها في أكبر مأزق لها منذ عقود، أصبحت ضعيفة أمام الضغط الروسي الخطير. الذي أخذ منحى خطيرا من خلال مناورات عسكرية تستفز الأمن الأوروبي ومن خلال طائرات مسيرة تخترق أجواء الدول الأوروبية بما فيها فرنسا وليس فقط دول مثل بولندا ورومانيا.
علاقة بهذا، تنتهي سنة 2025 وعلى بعد شهرين فقط من الذكرى الرابعة لاندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية بمعطيات قاسية جدا وهي: فقدان أوكرانيا بصفة كاملة للحرب أمام القوة الروسية. ويتجلى هذا في احتلال موسكو لأقاليم شرق أوكرانيا وضمها الى الخريطة الترابية لروسيا. وأدركت أوكرانيا ورفقتها أوروبا أن اتفاقية السلام وإنهاء الحرب تمر أساسا عبر تسليم شرق أوكرانيا الى موسكو. وانتقلت أوروبا رفقة كييف من القمم التي تعقد لاتخاذ إجراءات لتسليح الجيش الأوكراني للاستمرار في الحرب الى المفاوضات السرية للقبول بتسليم شرق أوكرانيا، ومحاولة أن تكون تحت إشراف قوات دولية كخطوة لإنقاذ ماء الوجه أمام الرأي العام الأوروبي والدولي.
من عناصر العجز الرئيسية في هذا النزاع هو انتهاء قمة رؤساء وحكومات أوروبا يوم 18 ديسمبر 2025 بعدم تفويت الأصول الروسية المودعة لدى مؤسسة يوروكلير البلجيكية الى أوكرانيا كتعويض عن خسائر الحرب وإعمار هذا البلد. وكان الاتحاد الأوروبي قد جمّد، عام 2022، أموال البنك المركزي الروسي وبعض الشركات الروسية المودعة في البنوك الأوروبية، وتناهز قيمتها 210 مليارات يورو، من بينها 185 مليار يورو في شركة يوركلير (Euroclear). وانتهت القمة بدون تفويت أي دولار أو يورو من هذه الأموال الى أوكرانيا. ومرد هذا التخوف الأوروبي من رد فعل روسي، لاسيما بعدما اعتبرت موسكو مصادرة أصولها المالية قرصنة تتطلب الرد القاسي. وهي تعني بالقاسي احتمال اندلاع مواجهة عسكرية مستقبلًا، وتحذر برلين من أن هذه الحرب مقبلة لا مفر منها. وكان مدير الاستخبارات الخارجية البريطانية ريتشارد ديرلوف قد صرح “علينا قبول الواقع، نحن في حرب مع روسيا والوضع خطير للغاية”.
ولم تعد موسكو تخاطب أوكرانيا من أجل السلام لوحدها بل تخاطب رفقتها أوروبا لأنها ترى فيهما تكتل واحد، ويريد الكرملين فرض شروطه التي تكاد مهانة حقيقية على الطرفين. ولهذا، وجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خطابه الى الطرفين معا في ندوته السنوية التي عقدها يوم 17 ديسمبر 2025 بأن على أوروبا رفقة أوكرانيا القبول بالأمر الواقع وهو عدم انضمام أوكرانيا الى الحلف الأطلسي، وضرورة التخلي عن إقليم دونباس بالكامل لصالح موسكو، وعدم المساس بالأصول الروسية.
ويعي قادة أوروبا هذا التطور الخطير وأن القارة قد تتحول الى أوكرانيا، وأعرب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأنه إذا خرجت روسيا منتصرة بشكل تام لن تتوقف في مسيرتها الحربية نحو أوروبا. وهو تصريح يجعل أوروبا في وثب أوكرانيا مستقبلا، أي رهينة مخالب الدب الروسي.
بروتوس الأمريكي مع القيصر الأوروبي
اعتقدت أوروبا كثيرا في الدعم الأمريكي لمواجهة روسيا والعمل على استنزافها، غير أن ما وقع هو انقلاب وضع الاستنزاف ضد الأوروبيين، الذين فقدوا مصادر الغاز والبترول الروسي من جهة، وتراجعت ترسانة العتاد العسكري الأوروبي الى الأدنى في مواجهة روسيا. وجاءت الضربة على شاكلة الحادث الروماني الشهير عندما وجد القيصر أن أحد المشاركين في اغتياله هو صديقه ماركوس بروتوس. فبينما أوروبا تواجه روسيا، يصدر البيت الأبيض بداية ديسمبر الجاري وثيقة استراتيجية للأمن القومي الأمريكي ، وتضمنت معطيات تضع التعاون العسكري والسياسي بين أوروبا وواشنطن على المحك.
أبرزت الوثيقة أن الثقة الأمريكية في أوروبا تتراجع بحكم عدم قيام الأوروبيين بتوحيد جيوشهم العسكرية ورفع الإنفاق العسكري رغم الخطر الروسي. واعتبرت أن واشنطن ستجد نفسها مجبرة على التعامل على مستويات مختلفة مع كل دولة أوروبية بدل أوروبا بالكامل. ويبقى أخطر ما جاء في الوثيقة أن البيت الأبيض بزعامة ترامب يرى أن الولايات المتحدة ستكون مجبرة على المشاركة في «إدارة العلاقات الأوروبية الروسية عبر انخراط دبلوماسي أمريكي كبير، سواء لإعادة تأسيس شروط الاستقرار الاستراتيجي عبر الكتلة الأوراسية، أو لتقليل مخاطر اندلاع الصراع بين روسيا والدول الأوروبية». وهذا يعني أن واشنطن بدأت ترى نفسها في دور الوساطة بين روسيا والاتحاد الأوروبي وليس حليف القارة الأوروبية في مواجهة الدب الروسي.
ويبقى أكبر ضربة تعرضت لها أوروبا “المعتدلة” هو أن الوثيقة الأوروبية تحذر من “«إذا استمرت الاتجاهات الحالية (أساسا الهجرة)، فستصبح القارة غير قابلة للتعرّف خلال عشرين عاماً أو أقل». هذه الفقرة الواردة في الوثيقة تعد أكبر دعم لليمين القومي المتطرف في القارة العجوز، لأنه يمين يكاد يصل الى الطابور الخامس وسط الدول الأوروبية لأنه موزع الولاء بين روسيا بوتين وأمريكا ترامب. ومن التعاليق القوية على الخذلان الأمريكي تجاه أوروبا، ما صرح به رئيس مجلس أوروبا أنطونيو كوستا على وثيقة الأمن القومي الأمريكي “أوروبا لن تقبل بالتهديدات الواردة في الوثيقة الاستراتيجية للبيت الأبيض”. أما وسائل الإعلام ومنها الباييس ولوموند وذي شبيغل فهي تتحدث عن نهاية ثمانية عقود من التحالف الأطلسي الذي بدأ في الحرب العالمية الثانية وينتهي مع ترامب.
وهكذا، تنتهي سنة 2025 كأسوأ سنة جيوسياسية للاتحاد الأوروبي خلال عقود، فهي تجد نفسها أمام مخالب الدب الروسي من جهة، وأمام الخيانة الأمريكية على طريقة ماركوس بروتوس في طعنه للقيصر سيزار.
