عادة ما نتعامل بنوع من التبخيس مع المنتوج الصيني بمبرر أنه محدود الجودة، وهذا الرأي السائد لدى الكثيرين في العالم خاصة في دول الجنوب، يخفي حقيقة مثيرة وهي الدور الذي تلعبه الصين في ما يمكن تسميته بدمقرطة التنمية خاصة بالنسبة للدول الفقيرة أمام الدور السلبي للغرب في احتكار المعرفة والتكنولوجيا حتى يحافظ على سيادته للعالم التي يمارسها منذ قرون.
ونتساءل: هل كان بإمكان دول الجنوب في وقتنا الراهن التمتع بمزايا التكنولوجيا من حواسيب وهواتف ذكية وألواح إلكترونية ضمن أدوات أخرى لولا الصين أساسا وبعض دول جنوب آسيا؟ سيكون الجواب بلا. وهل يمكن لدول الجنوب تحقيق تنمية بدون الصين؟ الجواب سيكون لا.
ينفرد الغرب تاريخيا بتطوير التكنولوجيا في مختلف المجالات، ولا يقتصر فقط على الأسلحة بل حتى منتوجات مثل الراديو والتلفزيون والثلاجات والغسالات والحاسوب و…وإذا قمنا بدراسة تاريخ استهلاك هذه المواد،سنجد أنها اقتصرت في البدء على الغرب ثم انفردت بها الطبقة الغنية والحاكمة في الجنوب بما في ذلك العالم العربي، وهي طبقة مرتبطة بالغرب عموما. ويعود هذا الى أن هذه المنتجات كانت مخصصة فقط لأصحاب الدخل الفردي المرتفع، ونتحدث هنا عن الغرب. لا ننسى أن الطبقة الغنية والحاكمة في الجنوب عاشت وتعيش في مستوى الغرب دائما، حيث تفصل بينها وبين باقي الشعب هوة كبيرة. من كان قادرا على شراء جهاز تلفزيون في الستينات وأوائل السبعينات من عامة الناس في الجنوب؟ من كان يمتلك من عامة الناس في الجنوب الثلاجة والغسالة الالكترونية في الجنوب؟ من كان يحلم في الجنوب بامتلاك حاسوب ما بين منتصف الثمانينات ومنتصف التسعينات؟ تلك الفكرة السائدة بأن الغرب يبحث عن أسواق لمنتوجاته لا توافق الواقع دائما. ومن ضمن الأمثلة، كان الغرب هو السباق الى صناعة الحاسوب سواء الفردي أو الحاسوب المتطور الذي تستعمله مراكز البحث العلمي والشركات الكبرى. واعتبر الغرب الحاسوب بمثابة السلاح، لا يمكن تسهيله لثقافات وحضارات أخرى لأنه سيسمح بتطورها السريع، وهو الراغب في الحفاظ على مسافة من التقدم حتى يحتفظ بالسيادة. لا ننسى أنه من ضمن العناصر التي ساعدت الجامعات الغربية على تحقيق قفزة كبرى في السبعينات والثمانينات هو توفرها على التكنولوجيا ومنها الحواسيب مقارنة مع جامعات من الجنوب. لم يحد الغرب فقط من تصدير الآليات المتطورة للجنوب بل فرض أسعارا لا يمكن للمواطن العادي في الجنوب اقتناء هذا المنتوج. وحدث هذا في دول تؤمن بالرأسمالية وفي دول تردد أن الرأسمال يبحث عن الربح. والمثير أن الماركات الغربية سواء الحواسيب أو الهواتف الذكية بما فيها التي تصنعها شركات غربية في الصين ليست في متناول الجميع في الجنوب. قد نجد هاتفا ذكيا صيني بمائة دولار وأقل، ومن المستحيل العثور على هاتف أمريكي أيفون بمائة دولار.
غير أن الصين وجهت ضربة كبيرة لهذه السياسة الغربية، وذلك بسبب أسعارها الرخيصة جدا لكل هذه المنتوجات. لقد رأينا كيف أصبح الحاسوب والهاتف الذكي من العناصر الضرورية للحياة، لو كان الغرب مازال يحتكر هذه الصناعة، هل كان بإمكان المواطن في الجنوب العيش في العالم الرقمي؟ الجواب سيكون بالنفي. إبان جائحة كوفيد، لجأت الدول الى التعليم والعمل عن بعد، هل كان بإمكان أن يحصل تلاميذ الجنوب على حقهم في الدراسة والعمال والموظفين من الجنوب في الاستمرار بالعمل لولا منتوجات الصين الإلكترونية التي هي بأسعار رخيصة؟ الجواب بالنفي.
بعد تعميم تكنولوجيا الحاسوب والهاتف الذكي وآليات طبية وفي قطاعات متعددة لمعظم البشرية، تفكر الصين في خطوة أخرى تقلق الغرب وستقلل من السيطرة، ويتعلق الأمر بتسهيل تكنولوجيا الطاقة النووية، وتسهيل الحصول على الأسلحة بأثمنة في متناول الجنوب. إبان جائحة كوفيد 19.
يرفض الغرب منذ عقود بناء محركات الطاقة النووية في دول العالم رغم حاجة هذه الدول لهذه الطاقة سواء في المجال الطبي أو إنتاج الكهرباء أو تحلية مياه البحر. وتنتظر دول مثل المغرب والسعودية منذ سنوات طويلة الحصول على محركات للطاقة النووية السلمية، غير أن هذا الغرب يرفض بيع محركات نووية للجنوب بل ويعاقب كل دولة من الجنوب تفكر في الطاقة النووية، وتعتبر إيران مثالا حيا للضغوطات التي تتعرض لها من الغرب وليس من الصين وروسيا والهند. قد يغيب عنا أن حصول الجنوب على محركات نووية لإنتاج الطاقة سيكون من أكبر المنعطفات في تاريخ هذه الشعوب، لأن هذا سيسمح بإنتاج الكهرباء التي تعني تطوير الصناعة، وسيسمح بتحلية ماء البحر الذي يعني تطوير الزراعة وتحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال التغذية. وعندما تكون لدول ما صناعة مقبولة واكتفاء ذاتي في الغذاء فهي تستقل نسبيا بقرارها السيادي-السياسي عن الآخرين، وفي هذه الحالة الغرب.
في نقطة أخرى، بدأت الصين تدخل سوق السلاح وتزاحم الدول الغربية مثل الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا بل وحتى حليفتها روسيا. وبدأت تنهج سياسة مثيرة للاهتمام وهو بيع السلاح للدول الفقيرة وبتسهيلات حتى تضمن هذه الدول ولو نسبيا الدفاع عن نفسها. ثم تنهج التصنيع العسكري المشترك، وهو ما تقوم به مع باكستان وتنوي القيام به مع دول إفريقية مثل نيجيريا وجنوب إفريقيا وعربية مثل الجزائر والسعودية مستقبلا. ويعد موضوع السلاح شائكا لأن الدول الغربية التي مازالت تتحكم في معظم الصفقات، وبالتالي تتحكم كما تريد في التوازن الإقليمي بين الدول. وإذا فقدت التحكم في السلاح ستفقد صناعة القرار الدولي. ومن ضمن الأمثلة، استقلت منطقة الساحل الإفريقي عن الغرب عسكريا خلال السنتين الأخيرتين بفضل السلاح الروسي وأساسا الصيني، فعال ومنخفض الأسعار.
نعم الصين، لا تفعل هذا لوجه الله أو حبا في الإنسانية بل ضمن استراتيجيتها للتوسع والتحول الى القوة الرائدة في العالم. وعلى الأقل هي استراتيجية تشارك الآخر وتجعله يستفيد ويربح بدوره وهي بهذا تغير المعالم الجيوسياسية للعالم، عكس استراتيجية الغرب الذي مارس احتكار التكنولوجيا والمعرفة لكي يضمن سيادته على العالم. لو كان الغرب مازال يحتكر الحاسوب والهاتف الذكي لكانت الهوة بين العالم الغربي ودول الجنوب شاسعة في وقتنا الراهن. بسياستها هذه، قد نقول مجازا أن الصين تعمل على دمقرطة الحق في التنمية في العالم. وبدون شك، معظم قراء هذا المقال يقرأونه في حاسوب أو هاتف ذكي صيني أو على الأقل جرى تصنيعه في الصين. هل كان عامة الناس في الجنوب سيتمتعون بالهاتف الذكي والحاسوب لو كان الغرب هو الذي يحتكر التصنيع!