كنا نخشى أن هذا سيحدث. وحذرتنا من أن هذا سيحدث،،مؤلفات مثل كتاب جورج أورويل “1984”، وأفلام مثل فيلم ستيفن سبيلبرغ “تقرير الأقلية”. وقالوا لنا أن التقدم الذي يجري إحرازه في تكنولوجيا الاتصالات، سوف يؤدي إلي أن نكون جمعيا تحت المراقبة.
وبالطبع، افترضنا أن هذا الانتهاك للخصوصية سوف يأتي علي يد دولة شمولية جديدة. لكننا هناك كنا على خطأ. فالتقارير غير المسبوقة التي كشف النقاب عنها “إدوارد سنودن” بشأن مراقبة إتصالاتنا، تورط الولايات المتحدة مباشرة، وهي التي كانت تعتبر “بلد الحرية”.
يبدو أن “بلد الحرية” إنتهي بعد إقرار قانون “باتريوت” لعام 2001. فقد اعترف الرئيس باراك أوباما نفسه أنه “لا يمكن أن يكون هناك أمنا 100 في المئة، ومن ثم لا يمكن أن تكون هناك خصوصية 100 في المئة”. مرحبا بكم في عصر “الأخ الكبير”!.
ولكن.. ما الذي كشف سنودن النقاب عنه؟ لقد سرب محلل الكمبيوتر هذا، البالغ من العمر 29 سنة، والذي كان يعمل مؤخرا لحساب شركة خاصة “بوز ألن هاملتون” – التي تعاقدت معها من الباطن وكالة الأمن القومي الأميركي- سرب لصحيفة “غارديان” -وإلى حد أقل إلي صحيفة “واشنطن بوست”- معلومات عن وجود برامج حكومية أمريكية لرصد رسائل وإتصالات الملايين من المواطنين.
وسرعان ما تناولت وسائل الإعلام شرح هذا الانتهاك الضخم، الذي لا يصدق، لحقوقنا المدنية واتصالاتنا الخاصة، بكل تفاصيله الدقيقية والمقززة.
وفي 5 يونيو، على سبيل المثال، نشرت صحيفة “غارديان” الأمر الذي أصدرته محكمة مراقبة الاستخبارات الخارجية، والذي يأمر شركة الهاتف “فيريزون” بتسليم عشرات الملايين من سجلات مكالمات عملائها الهاتفية، إلي وكالة الأمن القومي الأميركي.
هذا الأمر لا يشمل على ما يبدو محتويات الاتصالات الهاتفية ولا هوية المستخدمين لأرقام الهواتف المعنية، ولكن بالتأكيد مدة المكالمات وأرقام هواتف المتصلين والمتلقين.
وفي اليوم التالي، كشفت صحيفتا “غارديان” و “واشنطن بوست” النقاب عن برنامج المراقبة السرية (PRISM) الذي يمكن كل من وكالة الأمن القومي ومكتب التحقيقات الفدرالي دخول ملقمات تسع شركات الانترنت الرئيسية (مع استثناء ملحوظ في حالة تويتر): مايكروسوفت، ياهو، غوغل، فيسبوك، بالتوك، AOL، سكايب، يوتيوب، وأبل.
وعن طريق اختراق خصوصية الاتصالات، يمكن للحكومة الأمريكية الوصول إلى الملفات الخاصة بالمستخدمين، وملفات الصوت، والفيديو، والبريد الإلكتروني، والصور الفوتوغرافية. وبهذا أصبح برنامج المراقبة السريةPRISM المصدر رقم واحد لوكالة الأمن القومي للمخابرات المستخدمة في التقارير التي تعرض علي الرئيس أوباما على أساس يومي.
وعلى مدى الأسابيع القليلة الماضية، نشرت الصحيفتان معلومات جديدة عن برامج التجسس علي الإنترنت ومراقبة الاتصالات في بقية دول العالم، استنادا إلى تسريبات سنودن.
لقد قال سنودن لصحيفة “غارديان” أن “وكالة الأمن القومي قد بنيت البنية التحتية التي تسمح لها بالتجسس علي كل شيء تقريبا.. وبهذه القدرة، تستقبل الغالبية العظمى للاتصالات البشرية تلقائيا.. وتجمعها في نظامها، وتحللها، وتقييمها، وتخزنها لفترات من الزمن.. الجميع مراقبون ومسجلون”.
هذا وتعد وكالة الأمن القومي -ومقرها في فورت ميد بولاية ماريلاند- أكبر وكالة استخبارات أمريكية وأقلها شهرة، فهي سرية لدرجة أن معظم المواطنين الأمريكيين لا يعرفون حتى أنها موجودة. وتحصل وكالة الأمن القومي علي نصيب الأسد من ميزانية أجهزة الاستخبارات، ‘وتنتج أكثر من 50 طنا من المواد السرية في اليوم.
كما تمتلك وكالة الأمن القومي -وليس وكالة الاستخبارات المركزية- وتدير معظم أنظمة الولايات المتحدة القائمة علي جمع المواد الاستخبارات السرية: من شبكة الأقمار الصناعية العالمية، إلي عشرات من مراكز التنصت، والآلاف من أجهزة الكمبيوتر، وغابات كاملة من الهوائيات في جبال ولاية فرجينيا الغربية.
ومن ضمن تخصصاتها، التجسس على الجواسيس، أي علي أجهزة الاستخبارات التابعة لجميع القوى العالمية، سواء وديا أو غير وديا.
وخلال حرب “فوكلاند/مالفيناس” في عام 1982، على سبيل المثال، فكت وكالة الأمن القومي رموز الشفرة السرية لأجهزة الاستخبارات الأرجنتينية، مما جعل من الممكن نقل المعلومات حاسمة للبريطانيين بشأن القوات الأرجنتينية.
كذلك، ففي مقدور وكالة الامن القومي رصد أي بريد إلكتروني سرا، والبحث في الإنترنت أو الاتصالات الهاتفية الدولية.
وبإختصار تشكل مجموعة الإتصالات الكاملة التابعة لوكالة الأمن القومي والقادرة علي إختراق وفك الرموز، المصدر الرئيسي للحكومة الأميركية من المعلومات السرية.
هذا وتعمل وكالة الأمن القومي في شراكة وثيقة مع نظام النسق (Echelon) الغامض، الذي أنشأته سرا بعد الحرب العالمية الثانية خمس دول ناطقة بالانكليزية (المسماة “الخمسة عيون”)، ألا وهي: الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، كندا، أستراليا، ونيوزيلندا.
هذا النظام هو نظام ترصد عالمي يصل إلى جميع أنحاء العالم، ويرصد بإستمرار معظم المكالمات الهاتفية، والاتصالات عبر الإنترنت، والبريد الإلكتروني، ومواقع الشبكات الاجتماعية. ويمكنه رصد ما يبلغ مليوني محادثة في الدقيقة. ومهمته السرية هي التجسس على الحكومات والأحزاب السياسية والمنظمات والشركات.
وفي إطار نظام النسق (Echelon) هذا، أقامت أجهزة المخابرات الامريكية والبريطانية علاقات تعاون سرية منذ فترة طويلة.
ونحن الآن نعلم بفضل تسريبات “سنودن”، أن المخابرات البريطانية أيضا تراقب سرا كابلات الألياف البصرية، مما أتاح لها التجسس على اتصالات الوفود التي حضرت قمة G 20 في لندن في أبريل 2009.
لقد وضعت واشنطن ولندن خطة علي غرار “الأخ الكبير” قادرة على معرفة كل ما نقوله ونفعله في رسائلنا.
والرئيس أوباما عندما يتحدث عن “شرعية” هذه الممارسات التي تنتهك الخصوصية، فإنه يدافع علي ما لا يمكن تبريره.. أوباما يستغل سلطته ويقوض حرية جميع مواطني العالم..
لقد قال “سنودن” عندما نشر هذه المعلومات “أنا لا أريد أن أعيش في مجتمع تحدث فيه هذا النوع من الأمور”.
ليس من قبيل الصدفة أن جاءت تسريبات “سنودن” تزامننا مع بدأ محكمة عسكرية في النظر في قضية الجندي الامريكي “برادلي مانينغ” المتهم بتسريب أسرار إلى “ويكيليكس”، بل وتزامننا أيضا مع مرور عام علي لجوء الناشط “جوليان أسانج” في السفارة الاكوادورية في لندن.
“سنودن” و”مانينغ” و”أسان” هم أبطال لحرية التعبير، ومدافعون عن الديمقراطية السليمة ومصالح جميع المواطنين على هذا الكوكب. والآن يلاحقهم “الأخ الكبير” في الولايات المتحدة ويطاردهم.
لماذا تحمل هؤلاء الأبطال الثلاثة في عصرنا مثل هذه المخاطر التي يمكن أن تكلفهم حياتهم؟.
أجاب “سنودن” -الذي طلب من عدد من البلدان الحصول على اللجوء السياسي: “إذا أدركت أن هذا هو العالم الذي ساعدت على خلقه وأنه سوف يزداد سوءا مع الجيل القادم والجيل التالي، وأن قدرات هندسة الاضطهاد هذه سوف تتوسع.. فسوف تدرك أنك قد تكون على استعداد لقبول أي مخاطر وأنه لا يهم ما هي النتيجة”.
إغناسيو رامونيه، مدير صحيفة لومند دبولوماتيك