كشف التقرير الأخير لهيئة «غلوبال فاير بوور» حول وضع الجيوش في العالم، التراجع التدريجي للدول الغربية في المراكز الأولى وبدء احتلال دول جديدة هذه المراكز، مما يبرز مدى التغيير الحاصل في خريطة الجيوش على المستوى العالمي على مستويات منها تحالفات جديدة وتصورات جديدة للعلاقات الدولية.
وتصدر هذه المؤسسة سنويا تقريرها الذي يقوم بترتيب الجيوش وفق معايير دقيقة تأخذ بعين الاعتبار بالأساس المعطيات العسكرية المحضة مثل نوعية السلاح ومدى قوته النارية، ونسبة الوحدات العسكرية ونسبة المناورات الحربية. علاوة على عوامل أخرى بين رئيسية وثانوية ومنها التوفر على الموارد الطبيعية والطاقة والوضع الجغرافي والوضع المالي، وذلك بمعنى هل الدولة تمتلك قدرة مالية تسمح لها بشراء السلاح أم غارقة في الديون؟ وبحكم صعوبة استعمال السلاح النووي، لا يتم التركيز على هذا السلاح ذلك أن دولة مثل كوريا الجنوبية لا تمتلك السلاح النووي متقدمة على دول مثل بريطانيا وفرنسا التي تمتلك السلاح النووي.
وكالعادة، لا يحدث أي تغيير في المراكز الثلاثة الأولى منذ سنوات، إذ يعود المركز الأول إلى الولايات المتحدة التي تستمر أكبر قوة عسكرية في العالم، تليها روسيا في المرتبة الثانية لاسيما بعد ما تفوقت في صناعة الصواريخ فرط صوتية، وفي المركز الثالث الصين، وهي الدولة المرشحة لتصبح القوة العسكرية الأولى خلال عشر سنوات. وجاءت في المركز الرابع الهند وتليها كوريا الجنوبية في المرتبة الخامسة، بينما احتلت بريطانيا المركز السادس، تليها اليابان في المركز السابع ثم تركيا في الثامن وعاد التاسع إلى باكستان والعاشر الى إيطاليا. وتبقى المفاجأة هي احتلال فرنسا المركز 11. وضمن باقي المراكز حتى الثلاثين، جاء تصنيف دول منها إيران في المركز 14 وتليها مصر في 15 واحتلت السعودية المركز 23 والجزائر 26.
مفاجآت حقيقية
ويحمل هذا الترتيب مفاجآت حقيقية، على رأسها أن ثلاث دول غربية فقط توجد ضمن العشر الأوائل وهي الولايات المتحدة وبريطانيا وإيطاليا، بينما دول البريكس سيطرت على الترتيب وهي الصين وروسيا والهند وباكستان. في حين لم تتجاوز فرنسا المركز 11 وهذا يعود إلى عدم تحديث الجيش الفرنسي الذي يعاني الكثير من النقص في المعدات ونسبة الجنود، رغم أنه يتوفر على ميزانية ضمن العشر الأوائل في العالم. وتوجد ألمانيا في المركز 18 في ترتيب الجيوش رغم أن هذا البلد الأوروبي يتوفر على الميزانية السابعة الأكبر في العالم.
وإذا أخذنا المراكز الخمسين الأولى، ستتم ملاحظة تراجع دول الحلف الأطلسي في الترتيب عموما، في وقت كانت الدول الغربية خلال العقود الماضية بل خلال القرنين الأخيرين هي القوة العسكرية الأولى. ويعود التغيير الحاصل في الترتيب العسكري العالمي بتراجع دول غربية وتبوأ أخرى غير غربية إلى عوامل عديدة يمكن حصرها في:
في المقام الأول، نجحت عدد من الدول في التقدم في صناعة الأسلحة، الأمر الذي منحها ميزة تغطية بعض الاحتياجات الدفاعية، ومن ضمن هذه الدول غير الكلاسيكية في صناعة السلاح، نجد الهند وكوريا الجنوبية ثم إيران وباكستان وتركيا. وفي حالة إيران مثلا، تفوقت على دول غربية مثل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا في صناعة الصواريخ فرط صوتية. وفي حالة تركيا مثلا، نجد أن هذا البلد أصبح القوة العسكرية الأولى في البحر الأبيض المتوسط متقدما على فرنسا وإيطاليا بفضل صناعته للأسلحة وجيشه الكبير.
وفي المقام الثاني، تنوع أسواق السلاح، حيث لم تعد تتحكم فيه دول محدودة كما كان يحدث في السابق وأغلبها دول غربية، بل اقتحمت الآن سوق السلاح دول مثل باكستان وتركيا وإيران. ومن ضمن الأمثلة، باعت تركيا لعدد من الدول طائرات الدرون ومنها المغرب، هذا الأخير راهن على الصناعة التركية بعدما رفضت الولايات المتحدة بيعه طائرات مسيرة متطورة. ولا تستبعد العربية السعودية مثلا شراء المقاتلات الباكستانية جي إف 17 ثاندر.
في غضون ذلك، ينتج عن هذا التغيير في ترتيب الجيوش تغيير حقيقي في الخريطة الجيوسياسية العالمية على مستوى قوة الدول ومستوى التحالفات الجديدة. وعلاقة بهذا، تستمر القوة العسكرية ضمن العناصر الفعالة في صياغة العلاقات الدولية ومنح كل الدول موقعها في الساحة الدولية. إذ أن دولة قوية يخشاها الجميع ويخطب ودها الجميع. ومن جانب آخر، ينتج عن التغيير الحاصل في صناعة الأسلحة تحالفات دولية جديدة. في هذا الصدد، يعتبر العالم العربي من الأمثلة الدالة في هذا الشأن. وبعد ما تحفظت وتماطلت واشنطن في بيع أسلحة متطوة للسعودية والإمارات، بدأ البلدان يراهنان على السلاح الصيني ثم الروسي بنوع من الاحتشام وعلى سلاح دول أخرى مثل تركيا وباكستان. ودفع هذا التطور في العلاقات العسكرية البلدان الى الانخراط في مجموعة البريكس وبدء الابتعاد عن الكتلة الغربية بشكل تدريجي.
التغيير الحاصل في ترتيب الجيوش العسكرية عالميا سيتعاظم خلال السنوات المقبلة، وقد يكون الأمر مختلفا في العقد المقبل بمزيد من تراجع الدول الغربية لصالح قوى جديدة مثل البرازيل والمكسيك وماليزيا.