هل أصبحت فلسطين تخضع لمحاكم التفتيش في الغرب؟ سؤال مشروع ومنطقي، بل ضروري، من طرحه على ضوء قرار عدد من الحكومات الغربية تقييد حرية التعبير في ملف الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وكذلك رفع الدفاع عن إسرائيل الى مستوى العقيدة الدينية التي لا تقبل النقاش والجدال، بل تستوجب العقاب لكل مخالف لها.
وتاريخيا، انتشرت محاكم التفتيش في أوروبا عبر حقب زمنية مختلفة امتدت من القرن الثاني عشر إلى القرن التاسع عشر، وإن كانت قد مارست سطوتها وجبروتها بين القرنين الرابع عشر إلى السابع عشر. وبالحديث عن محاكم التفتيش، يتبادر للذهن معاناة المسلمين واليهود في إسبانيا، ومعاناة عدد من العلماء في بعض الدول الأوروبية ومنها إيطاليا مع الكنيسة. وأبرز مأساة في هذا الصدد هي حرق الكنيسة للعالم الشهير جوردانو برونو سنة 1600، وقرار ترحيل المورسكيين من إسبانيا سنة 1609. محاكم التفتيش هي مرادف لمفهومين، الأول، وهو المحاكمة الفكرية الصارمة، بسبب تبني أفكار معينة ولو علمية وليس فقط عقائدية، والثاني، هو العقاب الجسماني بطرق بشعة منها الحرق والتنكيل بالجثة كما حدث مع عدد من المفكرين. وكان الاعتقاد السائد هو قطع الغرب مع هذه الممارسات بفضل التقدم الديمقراطي وحرية التعبير والاعتراف بالتعدد الإثني والثقافي والديني، غير أن شبح محاكم التفتيش يعود بين الحين والآخر، لاسيما في الأزمات الكبرى، ويتجلى في محاكمة النوايا واستصدار المواقف بطريقة استفزازية، بل بالعنف أحيانا. حدث هذا في التفجيرات الإرهابية لـ11 سبتمبر في الولايات المتحدة، حيث لم تعد هناك مساحة للاختلاف، بعدما تبنى البيت الأبيض رسميا ذلك الشعار «إما معنا أو ضدنا»، حيث أصبح العالم مقسما، وفق رؤية القوي، بين عالم الشر والخير، ولا مجال لمناقشة أطروحته. ونعيش مجددا شبح محاكم التفتيش في الغرب بعد الاعتداءات الهمجية للقوات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، خاصة في قطاع غزة. ويمكن رصد مظاهر محاكم التفتيش الجديدة في قرارات اتخذتها بعض الدول الغربية وهي:
أولا، كل مدافع عن حقوق الإنسان أو صحافي أو سياسي، خاصة إذا كان من العالم العربي والإسلامي مطالب في أي نقاش أن يبدأ بإدانة حركة حماس ووصفها بالإرهابية، وإذا حاول تقديم رؤية قائمة على أن ما حصل يوم 7 أكتوبر هو نتاج عقود من الاعتداءات الهمجية الإسرائيلية، وعدم احترامها القرارات الأممية واستمرار احتلالها أراض عربية، فهو مشتبه فيه بأنه يتعاطف مع الإرهاب. نعم، إنها قمة المفارقة، الدفاع عن الشرعية الدولية، القرارات الأممية، التي تحمل دول غربية لواءها يصبح جريمة، القول بضرورة احترام إسرائيل القرارات الدولية أصبح جريمة. المطالبة بهدنة وقف النار، أصبح جريمة في أعين عدد من الحكومات الغربية، وفق هذا المنطق، يجب أن تصمت. وتناسلت الأخبار حول تعرض عدد من الصحافيين والسياسيين لمضايقات، والطرد أحيانا عندما تضامنوا مع فلسطين.
ثانيا، محاولة عدد من الدول الغربية منع مظاهر التضامن مع فلسطين، رغم قتل الجيش الإسرائيلي آلاف المدنيين ومنهم الأطفال. إذ حاولت دول منع التظاهرات بالقانون، وجعل حمل أعلام فلسطين بمثابة تأييد للإرهاب ومعاداة السامية. وشاهد العالم كيف عملت شرطة دول ومنها فرنسا على تفريق تظاهرات لآلاف الأحرار المنددين بجرائم إسرائيل.
والمثير أن هذه المواقف والقرارات المدافعة عن جرائم إسرائيل تحت يافطة ومبرر «حق الدفاع عن النفس»، صدرت عن دول متورطة في جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب بسبب ماضيها الاستعماري المقيت، سواء في القضاء على شعوب بالكامل مثل الهنود الحمر في الولايات المتحدة، أو تصفية شعوب أخرى مثل اليهود في حالة ألمانيا أو جرائم مرعبة مثلما ارتكبتها فرنسا في مستعمراتها. كما يبقى المشترك بين هذه الدول أنها سهرت على زرع إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط. كما تشترك في أنها اعتبرت جميع أشكال المقاومة ضد الاستعمار الغربي إرهابا.
وإذا كانت معظم الدول الغربية قد تراجعت عن تقييد حرية التضامن مع الفلسطينيين، بما في ذلك في الولايات المتحدة، فقد انفردت فرنسا بسياسة مقيتة بمنع التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين، بل بتقديم مقترحات سريالية مثل إنشاء ائتلاف دولي لمحاربة حركة حماس. وهكذا، عندما نتحدث عن الغرب، نقصد ذلك الإستبلشمنت» المقيت فيها الذي يخطط لتفتيت الدول ويفرض على العالم العربي والإسلامي حربا صليبية منذ قرون، وتعتبر القضية الفلسطينية من أبرز عناوين استمرار هذه الحرب العلنية والخفية في آن واحد، حسب السياقات والظروف. في المقابل، لقد انبرى مواطنون أحرار في الغرب ومنهم يهود في مواجهة محاكم التفتيش الجديدة التي يرغب جناح متطرف في الغرب فرضها في القضية الفلسطينية.
ولعل خير جواب على هذا التطرف السياسي والفكري المنتمي إلى القرون الوسطى هي مشاهد تجمعات يهود مؤيدين للسلام في المحطة المركزية في نيويورك، خرجوا للتنديد بحصار قطاع غزة ليلة الجمعة الماضية، ثم عشرات التظاهرات التي شهدتها معظم المدن الأوروبية، سواء المتوسطية مثل ميلانو وبرشلونة وغرناطة ومارسيليا أو شمال أوروبا مثل أمستردام ولندن واستوكهولم وبرلين. سيكون عار لا بعده عار، لو قررت بعض الحكومات الغربية إنشاء لوائح وملفات للمتضامنين مع فلسطين، وكأنهم مشتبه فيهم بمعاداة السامية، وتشرع في تطبيق سياسة الملاحقة الصامتة والعلنية ضدهم. إذ حدث، لن نكون أمام ظاهرة مكارثية جديدة بل أمام أساليب النازية المقيتة.