مر العلاقات بين المغرب وفرنسا بتوتر مفتوح وأزمة معلنة منذ أكثر من سنتين ونصف السنة، على خلفية ملفات متعددة تجمع بين ترابية مثل، الصحراء واستخباراتية مثل التجسس، وآخرها الجدل الناتج عن رفض المغرب المساعدات الفرنسية في الزلزال الذي ضرب منطقة الحوز (جنوب المغرب) يوم 8 سبتمبر الجاري. وهذه الأزمة واحدة من الأزمات في مسار العلاقات الثنائية، التي على عكس ما يُعتقد لا تعتبر مثالية ولا تاريخية بل برغماتية، وتسجل نكسات ومواجهات، وقد تتفاقم مستقبلا بسبب توجه أجندة كل بلد مستقبلا.
وتعود جذور الأزمة الأخيرة إلى مارس 2021، حيث تزامنت عوامل جعلتها تشهد برودة قبل التوتر المعلن. وأهم هذه العوامل: رصدت باريس فرضية تجسس المغرب عليها بواسطة برنامج بيغاسوس، حيث استهدف الطبقة السياسية الفرنسية، وعلى رأسها الرئيس إيمانويل ماكرون. اعتبرت باريس هذا التصرف «خيانة» من دولة تعتبرها حليفة، وقفت مع الرباط في حرب الصحراء وفي الأمم المتحدة، وجعلت منها قبلة للاستثمارات الفرنسية.
في المقابل، لم يستوعب المغرب كيف تعّمدت باريس أن تفوت عليه أهم فرصة تاريخية للحسم بشكل كبير في نزاع الصحراء، وذلك بعدم انضمامها إلى الدعم الأمريكي بعد اعتراف البيت الأبيض إبان حقبة دونالد ترامب بسيادته على هذه المناطق. اعتقد المغرب أن باريس ستكون صوته في الاتحاد الأوروبي لتوحيد كلمة الغرب حول موقف موحد في هذا النزاع، وهو دعم مغربية الصحراء. لكن باريس في ظرف تاريخي حساس مالت إلى إرضاء الجزائر وخففت من دعمها لموقف المغرب في الصحراء.
هذا هو الجوهر الحقيقي للمشكل الحقيقي بين البلدين، وليس تلك التحليلات التي تذهب إلى القول بمنافسة مغربية – فرنسية اقتصادية في القارة الافريقية. والواقع أن العلاقات بين البلدين ليست مثالية وليست تاريخية، بل هي علاقات تشهد استقرارا يهتز بين الحين والآخر وتطبعها البرغماتية، وتسجل قطيعة حقيقية تمتد إلى سنوات أحيانا. تاريخيا، وقبل القرن العشرين، لم تكن فرنسا شريكا رئيسيا للمغرب، بل إسبانيا وبريطانيا، وفي النصف الأول من القرن الماضي كانت علاقة استعمار تخللها تقتيل ونهب. ومنذ استقلال المغرب في منتصف الخمسينيات عن الاستعمار الفرنسي والإسباني وقعت أزمات كبرى بين البلدين وأبرزها:
*أزمة أواخر الخمسينيات، حيث عارض المغرب سياسة فرنسا في الجزائر، ثم قرارها الدفع باستقلال موريتانيا التي كانت تعتبرها جزءا من الأراضي المغربية. وقامت الرباط وقتها بتعزيز العلاقات مع الاتحاد السوفييتي، وكان هذا في فترة الملك محمد الخامس، جد الملك الحالي وأب الراحل الحسن الثاني. هذا الأخير، أعاد العلاقات إلى سكتها بعد وفاة الأب.
*أزمة اختطاف واغتيال المهدي بن بركة: وهي من أكبر الأزمات، حيث قرر الرئيس شارل ديغول مقاطعة المغرب بعدما تبين تورط الأخير في اختطاف الزعيم اليساري المهدي بن بركة خلال نوفمبر/تشرين الثاني 1965، واستمرت القطيعة سنوات، ولم تشهد عودة إلى طبيعتها الحقيقية إلا مع وصول فاليري جيسكار ديستان الى الإليزيه سنة 1974.
*أزمة كتاب «صديقنا الملك» للكاتب جيل بيرو الصادر سنة 1990 الذي قدم خلاله رؤية مختلفة عن تلك التي كان يروج لها المغرب في فرنسا. ورغم أن فرنسا كدولة لا تتحمل أي مسؤولية عن صدور هذا الكتاب، إلا أنه تسبب في أكبر الأزمات بين البلدين. وفاقم الكتاب من برودة العلاقات التي كانت بين البلدين إبان حقبة رئاسة الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران الذي كان يبحث عن تعزيز العقلاات مع الجزائر. ولم تشهد العلاقات بين باريس والرباط انفراجا حقيقيا إلا مع فوز جاك شيراك بالرئاسة منتصف التسعينيات. ويعد شيراك المؤسس الحقيقي لمرحلة جديدة من العلاقات القائمة على المصلحة العميقة المتبادلة، وكان ينادي منطقة الصحراء بالأقاليم الجنوبية للمغرب، وكان جزء من الاعلام يناديه ب “شيراك العولي”. وحافظ خلفه في الرئاسة نيكولا ساركوزي نسبيا على هذه المتانة من العلاقات.
*أزمة المحاكمة: وهي التي تتعلق بقرار القضاء الفرنسي إبان فترة رئاسة فرانسوا هولاند، إذ جرت محاولة اعتقال مدير الاستخبارات المغربية عبد اللطيف الحموشي سنة 2014 على خلفية ملفات حقوقية. وتسببت هذه الأزمة في قرابة سنة من التوتر لكنها لم تصل إلى القطيعة النهائية بل انتهت باتفاقيات في المجال القضائي. ولم يكن هذا الملف سوى مظهر من مظاهر الأزمة الحقيقية التي كانت آخذة في التبلور، وتتجلى في قرار باريس تحقيق توازن في سياستها بين المغرب والجزائر، من خلال تطوير العلاقات مع الجزائر وتخفيف تأييد المغرب في نزاع الصحراء. وكان مدير الاستخبارات الخارجية الفرنسية برنارد باجولي مهندس هذه السياسة، ويعززها المدير الحالي برنارد إيمي.
وتعتبر الأزمة الحالية إبان فترة ماكرون، امتدادا للأزمة التي انفجرت مع فرانسوا هولاند بسبب توجه الدولة الفرنسية لجعل الجزائر الشريك الرئيسي لباريس في منطقة شمال افريقيا على حساب العلاقات مع المغرب. وتجد باريس المبرر في كون المغرب بدوره يبحث عن شركاء آخرين في أوروبا أو باقي العالم، ويشدد على ذلك علانية في تصريحات لمسؤوليه، سواءفي خطابات الملك محمد السادس أو رؤساء الحكومة. وأصبحت قضية رفض المغرب للمساعدات الفرنسية المظهر الأبرز للأزمة الحالية، إذ يعتبر المغرب أنه ليس في حاجة لمساعدات باريس حاليا. وترى الأخيرة أن القرار سياسي ومفارقة كبيرة، وتتساءل إذ كيف يتوافد آلاف المغاربة على فرنسا للدراسة مجانا في جامعاتها، ثم استمرار المغرب التوصل بمساعدات فرنسية في مختلف المجالات، بينما يرفض المساعدات في ظرف دقيق مثل مأساة زلزال الحوز. وترتبت عن هذه الأزمة، حرب إعلامية بين الطرفين، فقد هاجمت الصحافة المغربية فرنسا بشكل قاس للغاية، وبدورها نشرت الصحافة الفرنسية مقالات تنتقد بقوة الملك محمد السادس، ويحدث هذا لأول مرة منذ وصوله إلى العرش سنة 1999.
في غضون ذلك، الأزمة الأخيرة بين الرباط وباريس تأتي لتؤكد معطى أساسيا وهو: أن هذه العلاقات طيلة العقود الأخيرة لم تكن مثالية، بل كانت براغماتية. وبدأت الأجندة الجيوسياسية لكل من البلدين تتباعد، وهو ما يؤدي الى تباعد هذه العلاقات، بما في ذلك عدم استبعاد وقوع أزمات مستقبلا مثل الأزمة الحالية بل تفاقم الحالية بشكل مقلق.