مؤسَّسة الترجمة/ مزوار الإدريسي

هل الترجمة مسؤوليةٌ منوطة بالمترجِمين وحدَهم، الذين يُفتَرضُ فيهم الإحاطة بلسانَين وأن يُحسِنوا المُراوَحَة بين ثقافتَيهما، في الآن ذاته، ويكون عليهم أن يتحمَّلوا عبءَ النّقل، والتَّبعاتِ المُترتِّبة عن إذاعة العمل؟ واضحٌ أنّ هذه الحالَ تسبَّبتْ للمترجِمين في ما لا يُمكنُ تصوُّرُه من مُضايقات، وعقوبات، وصلتْ إلى اغتيالهم أحياناً، وتَشهَد على ذلك أمثلةٌ تزخر بها حكايات المُترجمين، وكان للأديان يَدٌ فيها.

المعروف أنَّ المُترجمين كانوا، منذ العصور القديمة وإلى اليوم، هم حَمَلةَ لواء الانفتاح على الغريب، من خلال التعريف بأدبه ومعارِفه، والإفادة من خبراته. وقد استطاع بعضُهم أنْ ينهض بدور مؤسَّسة بكاملها، ولنا في الأدب العربي أعلامٌ كُثر، لعلّ أشهرهم سامي الدروبي بمكتبته الترجمية الروسية، وصالح علماني بمكتبته الترجمية الإسبانية؛ كِلا الرَّجُلين بادر إلى ترجمة روائع أدبية، دون ترقُّبٍ لدعم من وزارة أو مؤسَّسة، ليكون كلٌّ منهما مؤسَّسة في شخصه.

لا يُقلِّل هذا الكلامُ من الأدوار التي قامت بها مؤسَّسات الترجمة منذ القِدَم، والتي جعلتْ همَّها التعرُّف إلى فكر الآخر تحديداً، وتدشين حوار حقيقي معه، بغاية الارتقاء – ذاتياً – بالعلوم والمعارف. ولا غرو أنّ “بيت الحكمة”، برعاية الخليفة العباسي المأمون، وقَبله سلَفُه، قد أدركا مُبكِّراً ما يُناطُ بالترجمة من أدوار في التلاقح الفكري والثقافي، فدَعَّماها بالرجال والمال، بدليل توافر كُتُب كثيرة تعود إلى حضارات أَقدَم من العربية، أتى على ذِكرها الجاحظ وغيرُه في مؤلَّفاتهم، مثل ما ذكروا أصحابها ومُترجِميها.

والمعروف أنّ حركة الترجمة، ضمن مشروع “بيت الحكمة”، كانتْ حدَثاً فكرياً لافتاً، لكنها لم تتغلغل في المجتمع بكامله، ثم أنها لم تُعمَّرْ طويلاً، إضافة إلى أنَّ منجَزَها الكميّ لم يكنْ كبيراً، وضُنَّ بأعمالها على غير أهلها، فَلمْ تُذَع في الناس، لأنها لم تخرج من المركز إلى الهوامش، أي البلاد العربية الإسلامية وإلى عامة الناس. وما ينبغي التذكير به هو أن معظم المترجمين في العهد العبّاسي كانوا من المسيحيّين السريان.

ويقودنا هذا المُعطى إلى الاعتراف بأنّ العالَم المسيحي قد عَرَف، وَفْق كتب تاريخ الترجمة، مؤسَّسات للترجمة احتضَنَتها الكنيسة، قبل “بيت الحكمة” في العصر العباسي، وأنها اهتمّت بالتبشير على مستوى العالَم، لأنّ الكنيسة آمنتْ بعالمية رسالة المسيح، فانخرطتْ دون تَهيُّب في ترجمة الكتاب المُقدَّس وإذاعَته في العالَم، مع الحِرص على عدم تحريفه. حتى ذهب بعضُ مؤرِّخي الترجمة إلى أنّ تاريخ التبشير هو أساساً تاريخ للترجمة، لأنّ الكنيسة كانت فاعلاً رئيساً في الترويج للمسيحية عبر الترجمة، ولأنَّ من صُلبِها ظهَر مترجِمون كبار، مثل جُون وِيكْلِيف في إنكلترا، ومارتن لوثر، وشلايرماخر، ونايدا، وآخرين.

إذاً، الأكيد أنّ أوروبا قد عرفتْ اهتماماً بالترجمة لافتاً، قبل سقوط غرناطة في 1492م؛ فقد شهدتْ إنكلترا مع الملك ألْفريد العظيم (849 – 899م) مدرسة للترجمة نشيطة أسْهَم هو نفسُه فيها. كما شهدتِ الأندلس، في مدينة طليلطة تحديداً، نشاطاً ترجَميّاً تعهَّدَه الملك الأدفونْش، أو أَلْفُونْصُو العاشر الشهير بالحكيم أو العالِم، (طليلطة 1221 – إشبيلية 1284م)، الذي عُنِيَ بترجمة وإذاعة أعمال كثيرة ليس في إسبانيا وحدَها، وإنما في باقي أوروبا، بطلب من أمراء ممالكها، الذين كانوا يسعَون إلى نَشْر المعرفة بين العامّة، وحتى بعض رجالات الكنيسة الذين شجَّعوا على ذلك وخطَّطوا له، وخير مثال هو الأسقف رايمُوند دِ سُوڤيتَات.

لقد سهرتِ الكنيسة على تطوير التأويل بالانفتاح على شتّى العلوم، والمعروف أنَّ الهيرمينوطيقا (التأويلية) انتعشت في حضن الكنيسة، التي لا يزال رجالُها إلى اليوم من كبار المنظِّرين في الترجمة والهيرمينوطيقا معاً. ولم يمنع المسيحيين ظهورُ مذاهبَ دينية فيهم منِ استمرارهم في الرِّهان على الترجمة. ولا غرو أنّ نشاط الترجمة في الحقل الديني قد انتقلت عَدواه إلى المعارف في الغرب، وأنَّ مطبعة غوتنبرغ استُغِلَّتْ جيداً في أوروبا لنَشْر الكتاب المَحَليّ والمترجَم كليهما في الدين وفي الفنون والعلوم.

فهل كنّا سنعرِف في عالمنا العربي الإسلامي، بمَذاهبه الدينية ومراكِزِه العِلمية (“القَرْويِّين” و”الزيتونة” و”الأزهر” وغيرها)، نهضة عِلميةً وفنّيةً ومَعرفية شاملة ومُبكِّرة لو أنَّه اجتُهِد دينيّاً في شأن ترجمة القرآن والتفكير في نشره في غير لغته منذ القِدم؟

Sign In

Reset Your Password