مزوار الإدريسي (1963) كاتب ومترجم مغربي، يدرّس في مدرسة الملك فهد العليا للترجمة في طنجة. عُرف بترجماته الأدبية من الإسبانية إلى العربية؛ آخرها «الألف» قصص (2021) و«التانغو» أربع محاضرات» (2020) لخورخي لويس بورخيس، و«رحلات عبر المغرب» لفرانْثيسكو دِ أسيس أُرسْتَراثو (2023).
تمثل الترجمة بالنسبة إلى مزوار الإدريسي قضية وعي اجتماعي في سياق تاريخي تؤطره سياسة الدول قبل الأشخاص، كما ينبغي أن تعطى الأولوية في الترجمة للكُتب الإبداعية؛ لأن كل تفكير في الترجمة ـ كما يقول- يمكن أن نتقبله بصفته تفكيرا في الأدب، بل إن ما يصدق على الأدب يطاول الترجمةَ بالضرورة. وفي كتابه «فكر الترجمة» (2020) يبسط آراء وتأملات بخصوص الترجمة كفن وسياسة وجسر للوصل بين الثقافات من أجل التعايش وبناء المستقبل. ورغم الاعتقاد بأن «الترجمة خيانة» الذي يُنسب إلى جْواشيم دي بِلَاي، ويلاحقها كشبح، إلا أن نشاط حركة الترجمة لا يهدأ، والفكر الذي يواكبها تنظيرا وتأملا لا يزداد بدوره إلا عمقا وثراء.
□ كيف ارتبط مزوار الإدريسي باللغة الإسبانية حتى غدا واحدا من أبرز المترجمين العرب منها إلى لغة الضاد؟
■ تُسهم ظروف وسياقات عديدة في تشكيل شخصيتنا وبِنْيتنا ووَعْيِنا. وبخصوص تعلمي اللغة الإسبانية، أنتَ تعْلم أن الإسبانية كانت اللغة التي فرضها المستعمِر الإسباني على شمال المغرب، إبان ما يُعرَف بعهد الحماية، الذي طبعَه حضورُ المواطنين الإسبان إلى جانب الإدارة والجيش المُستَعمِريْن. وخلافا للفرنسيين الذين كانوا يُقيمون في ضيعات، أو في بنايات تجعلهم منعزلين عن المغاربة، فإن الإسبان الهاربين من الفقر والحرب الأهلية في إسبانيا وجدوا ملاذا آمنا في المغرب وحياة أرغَد نسبيا، ثم إنهم اندمجوا في المجتمع المغربي بيُسر، فمارسوا مهنا ووظائف متنوعة بين العالية والعادية جدا، بل إنهم سكنوا في المدينة القديمة مُتقاسِمين بعض البيوت مع بعض المغاربة، ومنهم من اشتغل لدى بعض المغاربة الأغنياء، فكانت الحياة مُشتَرَكة حقيقة بين الاثنين. وقد عاينْتُ في طفولتي هذه الحال، نظرا لمجيئي إلى الوجود في بناية كان فيها جيرانٌ إسبان، فأسعفني ذلك في تعلم بعض الكلمات والعبارات البسيطة، التي أسهمتْ لا محالة في مساعدتي على تعلم المزيد لاحقا.
لم أتعلم الإسبانية في الثانوية المغربية، بل اخترْتُ الإنكليزية، ودرستُ الأدب العربي في الجامعة، وتخرجتُ أستاذا للغة العربية من المدرسة العليا للأساتذة في تطوان، وبعد أن اشتغلتُ خمس سنوات في التعليم المغربي نجحتُ في مباراة للتدريس في المعهد الإسباني في طنجة، حيث درستُ اللغة العربية وثقافتها مدة خمس عشرة سنة، هناك تعلمتُ الإسبانية من خلال انغماس كُلي في الثقافة الإسبانية. في الحقيقة، كنتُ مَدينا إلى زُملائي الأساتذة الذين لم أكنْ أتردد في أن أسألهم عن بعض الكلمات، أو العبارات أو المعلومات مُستفسِرا، وكذلك لا يُمكنُني أن أتنكر لتعلمي الإسبانية من تلامذتي المغاربة والإسبان، الذين كنتُ أُلقنُهم اللغة العربية متوسلا بلغتي الإسبانية المتواضعة، فكانوا يُقومون لي نطقي وعبارتي، وهكذا كنتُ أتعلم باستمرار في ذلك الوسط الذي كنتُ أقضي فيه يوميا تسع ساعات على الأقل، ناهيك عن الأنشطة التي كان يشهدُها ذلك المعهد إلى جانب معهد ثربانتيس، فكانت النتيجة أن صقلتُ معرفتي بالثقافة الإسبانية ليس من خلال الكُتُب وحدها، بل من خلال المعيش اليومي في الوسط الثقافي الإسباني داخل المؤسسة وخارجَها، ومن خلال مرافقة التلاميذ في رحلاتهم الثقافية إلى مختلف ربوع إسبانيا.
□ نعرف اليوم أن الإسبانية أصبحت لغة عالمية شديدة الانتشار، ما الذي دفع في هذا الاتجاه إذا استحضرنا التجربة الاستعمارية؟
■ المعروف أن اللغة التي نُعرفها ونَعرَفها بالإسبانية هي في الحقيقة اللغة القشتالية، لأنك تجد في إسبانيا اللغة الكتلانية والباسكية والجِليقية وغيرها، لكنْ حدث أن انتشرتْ الإسبانية بفعل التوسع الاستعماري الإسباني، هكذا يتكلمها الآن21 بلدا في أمريكا الجنوبية، وغينيا الاستوائية في افريقيا، إضافة إلى تداولها لدى 36% من سكان الولايات المتحدة الأمريكية، ناهيك عن شمال المغرب وصحرائه اللذيْن يُتواصَل فيهما بهذه اللغة. ويُقدر عدد سكان العالَم الذين يتكلمون الإسبانية اليوم بـ500 مليون نسمة، وهو رقم هائل جدا يضع الإسبانية في المرتبة الثالثة عالَميا بعد الماندرين (الصينية) والإنكليزية. وهذا الحضور يجعل منها لغة حاملة لثقافة واسعة ومتنوعة، ولغة علم بامتياز، يشتغل فيها باحثون إسبانيو اللسان في جامعات الولايات الأمريكية ومراكز البحث بها.
□ كيف يمكنك رسم جغرافية الأدب الإسباني، لاسيما أنك نقلت خلال العقدين الأخيرين عيونا من هذا الأدب؟
■ لا ينحصر الأدب الإسباني – في مَظهريْه الإبداعي والدراسي – في إسبانيا وحدَها، التي شهِدتْ نشأة هذه اللغة وتوسعها بفعل التوسع الاستعماري، بل إنه أدب تخطى المركزَ أو المتروبول لينشط في الهامش التابِع بِبُلدان أمريكا اللاتينية، باستثناء البرازيل، واشتُهِر باسم الأدب الهيسپانو- أمريكي وفي أوساط الولايات المتحدة الأمريكية، ولدى نخبة من أدباء غينيا الاستوائية، كما أصبح يعرف انتعاشا قويا في المغرب في منطقة الحماية الإسبانية سابقا، ولدى بعض الجامعيين المغاربة الذين غدَوا يُسهمون في إغناء الأدب الإسباني بدواوين وروايات وقصص ومسرحيات وغيرها، دون أن نغفل عن بعض العرب كما الحال في الشقيقتيْن تونس والجزائر، أو عن بعض الأوروبيين الذين ليسوا إسبانا، لكنهم يُبدعون بالإسبانية مثل المترجِم إِمِيلْيُو كُوكُو Emilio Coco (إيطاليا) وجَانْ پُورْتَانْتْ Jean Portante (لوكسمبورغ).
لو تحدثنا عن أولى النصوص الأدبية المؤسسة للأدب الإسباني، التي جعلت منه ضمن أرفع الآداب العالمية، بل إن أدب أمريكا اللاتينية ساهم بقوة في إثراء هذا الأدب؟
■ الواقع أن محاولة تقديم النصوص الإسبانية الأكثر تمثيلا للأدب الإسباني مهمة صعبة للغاية، إنْ لم تكن مستحيلة؛ إنها شبيهة لديّ بمحاولة جمع ماء البحر بالشباك، ولحُسن الحظ أن كثيرا من المثقفين الإسبان قدموا ما يُعرَف نقديا بالمُعتَمَد الأدبي الإسباني El canon Literario، أي الكتابات التي لا غنى عنها لمن يريد التعرف إلى أفضل الكتابات المَرجعية الإسبانية الكلاسية، التي كانت حاسمة في إرساء تقاليد أدبية، وتأتي في مقدمتها «ملحمة السيد» التي فيها من الملامح الثقافية العربية أسلوبا وقِيَما ما لا يخفى على القارئ العربي، وهو أمر طبيعي لأن العمَلَ أُلف في القرن 12، أثناء الوجود العربي الإسلامي، الذي أثر في الحياة الأندلسية سياسيا واجتماعيا وثقافيا، إلخ. ويلي هذا المؤلفَ الملحميَ «كتاب الحب الفاضل» لخْوَانْ رْوِيثْ دِي هِيتَا وهو عبارة عن مقاطع شعرية مطولة لسيرة تخييلية غرامية للمؤلف نفسه، وقد رأى فيه النقاد ملامحَ ثقافية عربية أيضا، وهو ما لا يخفى نظرا لكونه أُلف أثناء الوجود الثقافي العربي-الإسلامي في الأندلس، خلال القرن 14. ثم تلاه أشهر كتاب في أدب الشطار ويُعرَف بـ»لاثاريو دي تُورْمِسْ» الذي رأى فيه كثيرٌ من النقاد أثرا بينا لأدب المقامات العربية، وهو كتابٌ يُنسَب إلى مجهول، على الرغم من اجتهاد بعض النقاد في أن ينسبوه إلى بعض الأسماء المهمة. ثم رواية ضون كيخوطي دي لا مانْشا لميغِلْ دي ثرْبَانْتِس، التي أسست للرواية الحديثة، والتي للثقافة العربية من الحضور في ثناياها لا يحتاج إلى دليل، ويكفي أن نُذكر بأن مؤلفَها ذهَبَ، ضِمن لعبه الفني، إلى أن عملَه اقتصر على ترجمة نصها إلى القشتالية بعدما عثر عليه مخطوطا مكتوبا بالعربية لدى كُتبي في زقاق في طليلطة، أو في ألواح رصاصية. ولا يُمكن أن نغفل عَما أُنتِج في أمريكا اللاتينية، خصوصا أعمالَ الراهبة خْوانا إِينِسْ دي لاكْرُوثْ، التي اُلفتْ في الهامش في المكسيك بعيدا عن المركز أي إسبانيا. أما العصر الحديث فالأسماء التي أسهمت في تطوير الأدب الإسباني في أمريكا اللاتينية التي شكلتْ مُعتَمدا أدبيا حقيقيا كثيرة، وتتفوق على المركز الإسباني كثيرا.
□ كيف تقيم ترجمة الأدب الإسباني إلى العربية، التي قام بها في الأصل أفراد جهابذة أكثر منها عمل مؤسسات أو قطاعات حكومية؟
■ لا يمكن لتقييم الأدب المترجَم من اللغة الإسبانية إلى العربية إلا أن يكون إيجابيا، بل علينا أن نحمد الله على أنْ تَوَافر لنا مترجمون مَكنوا القارئ العربي من الانفتاح بسرعة مذهلة على هذه الفضاءات الإبداعية، التي استطاعتْ تجديد وإغناء الكتابة الإنسانية بعوالم خارقة عُرِفت نقديا بـ«الواقعية السحرية» التي حولتِ الهامش إلى مركز، بأسماء في النقد والإبداع يصعب أن تتزامن في القيمة نفسها وفي اللسان ذاته في فترة زمنية متقاربة، أقصِدُ أعلاما مثل خْوانْ رُولْفو، وأوكتاڤيو باث، وخورخي لويس بورخيس، وغابرييل غارثيا ماركيز، وخولْيو كورتاثار، وغابرييلا ميسترال، وماريو فارغاس يوسا، إلخ. هؤلاء الأعلام الذين قدمهم لنا مترجمون كبار يتقدمهم صالح علماني، ومحمود صبح، والمهدي أخريف، وسعيد بنعبد الواحد، وعمر بوحاشي، وآخَرون. ولا مراء في أن هؤلاء المترجِمين العرب أغنوا أدبَنا العربي، بإدخالِهم لأعمال أولئك، وسيكون إجحافا في حقهم أنْ يُنتقَدوا، فهم قدموا خدماتهم الجليلة في ظروف صعبة جدا، لذلك لا يسعني إلا أن أُنوه بِهم.
□ ماذا بوسع الترجمة أن تُفاوض عليه من أجل العيش المشترك وتقريب الثقافات؟ وهي خطاب جمالي ونظام معرفي رافد، إلى أي حد تستطيع الترجمة أن تستولد أنماطا جديدة من الوعي والكتابة والتلقي داخل اللغة المترجَم إليها؟
■ لا أفتأ أردد عن اقتناع قولة للفيلسوف الإسباني أُورْتِيغا إِي غَاسِيتْ مفادُها أن «قضايا الترجمة هي من قضايا الأدب» وأن «الترجمة جنسٌ أدبي على حدة، لذلك أتصورُ الترجمةَ دوما متآزرة مع الأدب والفكر في ما يُمكن أن نُعبر عنه، وفق عبارة پول ريكور الشهيرة، «بالاستهداف الأخلاقي» الذي يروم بلوغَ الحياة الجَيدة والخيرة، «مع الآخر ومن أجله في إطار مؤسسات عادلة». تهتم الترجمة باستضافة الغريب المفيد، تَطلعا منها إلى تلقيح ثقافتها به بغيةَ الارتقاء بِالمُنتَج الإبداعي والفكري، إنه ما عبر عنه الناقد هومي بابا بإدخال «الجِدة» التي تَضمن تحسين النسل، من جهة، ومن جهة ثانية تُرسخ الترجمة ثقافة «الاعتراف» بالآخَر، التي هي إعلان صريح عن القبول بفلسفة «التشارك» أي بالتخلي عن الاحتكار، والقبول بالتحلي بـ«تقاسُم» الخبرات والمشاريع وغيرها، بما يترتب عليها من ضمان «التفاهم» بين مجتمَع الثقافة المترْجَم منها ومجتمع الثقافة المترْجَم إليها. ولا غرو في أن الأدب يكون فاعلا أساسيا في هذا المَسير، لما له من نجاعةٍ في تعهد هذه القِيم وترويجها بِتَمريرها جماليا، فيكون التآُثر بِيُسر بين آدَاب اُمتيْن أو أكثر بأجناسها الأدبية وأشكالها التعبيرية المتنوعة، وقضايا المختلفة، لأن الأصْل أنْ لا إكراهَ في الإبداع. وعلى الرغم من أن الشق الثاني من هذا السؤال تهتم به الدراسات المقارنة، فالواضح أن المقامة العربية عبرتْ إلى الأندلس وأنتجت أدب الشطار، وأن المسرح والرواية وفَدَا علينا من الغرب عبر الترجمة، وأن الهايكو وصلنا عبر لغاتٍ وسيطة، وهكذا دواليك.
□ كيف تنظر الى هذه الترجمات على امتداد الوطن العربي؟
■ أُفضل أن أَستهل الجواب بالتساؤل التالي: أي حال كان سيؤول إليها أدبُنا العربي، لولا انفتاحه على الأدب العالمي عبر الترجمة؟ أكيدٌ أن احتكاكنا، في العصر الوسيط، بحضارات العالَم القديم قد أحدث انعطافا قويا في معرفتنا وفنوننا وعلومنا، فكانت لحظة اللقاء تخصيبا لثقافتنا الناشئة، والمعروف أن الترجمة تحملت عبء الوصل والوساطة وإدخال الجديد قَبل أنْ يُطبق الانحطاط على المجتمع برُمته. إننا اليومَ مُطالَبون باستحضار تلك اللحظة المضيئة، وبأن نَنظر إلى مُنجَزِ المترجِمين العرب حاليا بصفته عملا ملحميا حقيقة، لأن الرهان على الترجمة أساسي في كل نهضة، ولأن ظروف المترجِم العربي لا ترقى إلى المستوى الذي يمنح الممارسَةَ قدرَها المُفترَض من الاحترام والرعاية، ومع ذلك فهو يتحدى هذه الظروفَ، ليَقوم بالأدوار المنوطة به شأنَ سابقيه. إن الترجمات عن الإسبانية المتوافرة في المكتبات العربية محترَمة للغاية، ويستحق ممارِسوها الثناء، ولا مُبرر لِبَخسهم قدرَهم. وإذا كانتْ من مؤاخذة توجه أو لوم فهو إلى وزارات الثقافة في العالَم العربي وإلى دور النشر التي لا تُخطط لمشروع عربي يهتم بترجمة أهم الأعمال في الفكر والأدب والعلوم، وتُكافئ المترجِم بما يُشجعُه على الاستمرار في عمله، ليعيش في وضعٍ شبيه بالذي توفرُه وزارات الثقافة ودور النشر الغربية لمترجِميها.