زار وفد إفريقي بزعامة رئيس جنوب إفريقيا سيريل رامافوزا خلال الأسبوع الماضي كل من موسكو وكييف للمساهمة في البحث عن حل للحرب الروسية-الأوكرانية، مبادرة تبدو عادية في ظل الحديث عن وفود السلام، غير أنها تبرز استمرار ما يمكن تسميته “انتفاضة الجنوب” في عالم تتغير وتتشكل خريطته الجيوسياسية من جديد.
واعتاد الإعلام الدولي ومراكز التفكير الاستراتيجي الحديث عن التغيرات الجارية في العالم في الوقت الراهن نتيجة الحرب الروسية-الأوكرانية، ويجري التركيز كثيرا على تطورات العالم على ضوء الصراع الذي يتبلور بقوة بين الولايات المتحدة والصين بشكل دقيق، ثم بين الغرب بزعامة واشنطن والتحالف الآخذ في التشكل بزعامة بكين.
ولعل مرد هذا الاهتمام بهذه التصورات التي تقتصر على الدول الكبرى هو استمرار الارتباط بمراكز التفكير الاستراتيجي ووسائل الإعلام الغربية الكبرى. وهي هيمنة لا يمكن إنكار قوتها، لكنها لا تعكس الواقع الحقيقي، وهي إما تنهج هذا بطريقة متعمدة أو عن سهو تماشيا مع أن “الآخر” لاسيما إذا كان من العالم الثالث، يبقى وضعه الجيوسياسي هو مجرد “أداة من أدوات الجر”.
والواقع أن الصورة البانورامية للعالم أكبر وأشمل من هذه التصورات الضيقة، ذلك أن ما يسمى بالعالم الثالث، وهو في الواقع العالم الواقع في الجنوب اعتمادا على تصنيف جغرافي بدل السوسيو-اقتصادي، بدأ يحجز مكانه في هذه الصورة. ولا يعتبر صعود الصين كقوة عالمية تنافس الولايات المتحدة بالأمر الجديد أو من إفرازات الحرب الروسية-الأوكرانية. فمن جهة، هذا المعطى الجيوسياسي قديم ويعود إلى الثمانينات، وتناوله بالتحليل المفكر الأمريكي صامويل هنتنغتون في كتابه “صراع الحضارات” منذ ثلاثين سنة، ومن جهة أخرى، ساعدت الحرب الحالية على تسريع إيقاع تحول الصين الى دولة تحتل مركزها في ريادة العالم رفقة الغرب.
ويبقى الجديد الذي أفرزته الحرب الروسية-الأوكرانية هو بدء اكتساب دول الجنوب مكانة ملحوظة في صنع القرار الدولي. لم تعد أساسا “أداة من أدوات الجر” تابعة لقرار هذه الدول أو تلك في الأمم المتحدة، بل بالعكس تحجز مكانتها في العلاقات الدولية كفاعل. وهذا سيتطلب الوقت والعمل نظرا لتفاوت دور كل دولة من دول الجنوب، كما لا يمكن الحديث عن الجنوب ككثلة مثل “الغرب”. ولكننا نوجد أمام بدء “انتفاضة الجنوب الجيوسياسية”، بطيئة ولكن بخطوات ثابتة. بعض الدول تساهم في هذه الانتفاضة، ودول أخرى مازلت فاقدة للثقة، والكثير منها في العالم العربي. في هذا الصدد، يمكن تناول ثلاثة مظاهر رئيسية لهذا التوجه الجديد ويتجلى في: الدبلوماسية والفكر وصناعة السلاح، وبتفصيل أكثر:
في المقام الأول، تعد زيارة الوفد الإفريقي الى كييف وموسكو للوساطة في الحرب، أهم محاولة جدية حتى الآن بحكم أنها تصدر عن طرف غير متورط مباشرة في الحرب أو لديه مصالح كبرى، عكس دول أخرى مثل الوساطة الصينية. وهذه أول مرة منذ تأسيس هيئة الأمم المتحدة وحصول الدول الإفريقية على استقلالها، تقوم بدور وساطة في ملف من الملفات التي تحدد مستقبل العالم خلال الخمسة عقود المقبلة على الأقل. هذه الوساطة تأتي بعيدا عن تأثير القوى الكبرى ولاسيما الولايات المتحدة، ولن ينظر الغرب بعين الرضى لهذا التطور. سياسيا دائما، وبالموازاة مع هذا، بدأت عدد من الدول بما فيها التي كانت شبه أداة في يد الولايات المتحدة مثل العربية السعودية الدفاع عن استقلالية قرارها السياسي من خلال الابتعاد عن الولايات المتحدة وبريطانيا والانفتاح على معسكر الصين-روسيا. ولا يمكن فهم التطورات الحالية دون مساهمة دول من “الجنوب” في هذا التغيير، ولعل العنوان البارز هو “الانضمام” المرتقب لمنظمة “بريكس”، هذه الأخيرة ستبقى بدون معنى دون انضمام الدول الإقليمية من الجنوب لصفوفها.
في المقام الثاني، تعتبر الحرب الروسية-الأوكرانية منعطفا في تاريخ الحروب خلال القرنين الأخيرين، وذلك بسبب اعتماد الدول المتحاربة على أسلحة من الجنوب، وهذا يحصل لأول مر وأساس بسبب “الدورن”. فقد جرى استعمال الدرون في عدد من الحروب السابقة أو في شن هجمات خاصة في استهداف زعماء المنظمات المتطرفة في العراق وسوريا واليمن، وفي حرب أرمينيا وأذربيجان وكذلك في المناوشات بين المغرب وجبهة البوليساريو في منطقة الصحراء، غير أن الحرب الروسية-الأوكرانية هي المنعطف الحقيقي. وستعرف هذه الحرب في التاريخ العسكري بحرب الطائرات المسيرة رغم استعمال أسلحة أخرى بكثافة. وهكذا، فقدت شهدت وتشهد هذه الحرب الحرب استعمال دول أوروبية وروسيا أسلحة من دول كانت توصف حتى الأمس القريب بالعالم الثالث، ويتعلق الأمر بالدرون الإيراني والتركي. ويكفي أن عددا من الدول الكبرى مثل الصين تفكر في شراء درونات إيرانية ويعتقد أنه بدأ تصنيعها في المصانع الحربية الروسية، ولا تستبعد دول غربية مثل ألمانيا شراء درونات تركية.
في المقام الثالث، يتعلق الأمر بما هو فكري وفني. تماشيا مع المبادرات السياسية مثل الوساطة، ثم الصناعة الحربية وصناعات أخرى، يشارك المثقفون من الجنوب في إعادة صياغة الخريطة الفكرية العالمية من خلال إعادة النظر في المعرفة التي هيمنت على العالم طيلة الثلاثة قرون الأخيرة بل والإنتاج الملحوظ. وتتميز دول مثل البرازيل والأرجنتين والمكسيك وكذلك تركيا وإيران وأندونيسيا وجنوب إفريقيا بتقدم ملحوظ في هذا الشأن. إذ لا يمكن المشاركة في تغيير الخريطة الجيوسياسية والتحول إلى فاعل فيها بدون معرفة صلبة تشمل الفني والفكري والإعلامي. وهذه المبادرات الفكرية هي التي تقدم نظريات وأفكار تجعل من الجنوب أداة جر إلى “انتفاضة”.
وكالعادة، الانتماء العربي والأمازيغي يجرى الى السؤال العريض: ما هو دور العرب في “الانتفاضة الجيوسياسية للجنوب”؟