تحول الذكاء الاصطناعي إلى موضوع مركزي في النقاش السياسي والاجتماعي والعلمي والأخلاقي في الوقت الراهن، بسبب الآفاق والتحديات التي يضع البشرية أمامها. ومن ضمن التحديات الكبرى ما يتعلق بالخصوصية في شقها الخاص بنوعية المراقبة، سواء كأفراد أو جماعات بمستويات متعددة مثل الإثنيات والأقليات والشعوب برمتها. ويعد الاتحاد الأوروبي أول من سيصدر قانوناً منظماً لاستعمال الذكاء الاصطناعي في المراقبة الفردية والجماعية.
وفي حين أن التسعينيات من القرن الماضي قد شهدت نقاشات شغلت البشرية وقتها بسبب ظهور شبكة الإنترنت وما قدمته من برامج، فإن المنعطف التاريخي الثاني هو الحاصل مع الذكاء الاصطناعي وارتباطه بشبكة الإنترنت.
وارتبط الذكاء الاصطناعي بقطاعات متعددة وأساساً البحث العلمي ثم بقضايا أمنية أساساً، بحكم أن الدول عادة ما توظف التكنولوجيا بمستويات متعددة للحفاظ على الأمن بشقيه، الأمن العام، ومراقبة آخرين سواء الدول أو أفراد وجماعات معارضة.
وكالعادة، تكون الأجهزة الاستخباراتية والمؤسسات العسكرية السباقة وأحياناً بسنوات طويلة إلى استعمال أي تكنولوجيا قبل الترخيص باستخدامها من طرف المدنيين. ولعل المثال الأبرز هو كيف كان الجيش الأمريكي يستعمل الإنترنت منذ نهاية الستينيات، ولم يتم نقلها إلى العالم المدني حتى بداية التسعينيات.
عند الحديث عن الذكاء الاصطناعي والمراقبة السيبرانية أو الاتصالات عموماً، يتبادر إلى الذهن وكالة الأمن القومي الأمريكي التي بقيت طي الصمت منذ الخمسينيات حتى منتصف التسعينيات، والتي كانت تراقب العالم بامتياز بواسطة برنامج إيشلون بمشاركة كل من بريطانيا وأستراليا ونيوزلندا وكندا، أكبر برنامج تجسس في التاريخ. وكان إدوارد سنودن قد كشف برامج مدهشة في مراقبة العالم من طرف هذه الوكالة التي عمل فيها مثل برنامج بريزم.
ومن ضمن أهم مظاهر الذكاء الاصطناعي بالمراقبة هو «كاميرا المراقبة»، غير أن الأمر يختلف على ما اعتدناه. في هذا الصدد، يتعلق الأمر بخوارزمية ذكاء اصطناعي معقدة ترفع أنظمة المراقبة بالفيديو إلى مستوى آخر. إذ تفهم الناس أنظمة الدوائر التلفزيونية المغلقة بالطريقة الأكثر كلاسيكية. أي، التسجيل المستمر من الكاميرات الأمنية تبث مباشرة وعن بعد لمنطقة معينة مثل مدخل عمارة أو محيط شركة. لقد تطورت الآن أنظمة المراقبة بالفيديو بعدما أصبح الذكاء الاصطناعي يعالج البيانات. ومن ضمن الأمثلة، لا يمكن لأي متهم بالإرهاب في الوقت الراهن التجول في مدينة أمريكية مثل واشنطن أو نيويورك إذا لم يستعمل التخفي من خلال تغيير ملامحه جذرياً؛ إذ سترصده أي كاميرا تابعة للقطاع العمومي أو شبه عمومي، وتقوم برامج الذكاء الاصطناعي بتحليل المعطيات، وإذا كانت نسبة الشك فقط أكثر من 5%، يتم تعميم صوره على جميع أفراد الشرطة الموجودين في قطر يتجاوز 20 كلم للقبض عليه.
وهذه التقنية يتم استعمالها في تتبع الدبلوماسيين الأجانب وعملاء الاستخبارات، ولهذا فاللقاءات بين ضباط استخبارات وعملائهم أصبحت شبه مستحيلة في دولة مثل الولايات المتحدة، وكذلك في دولة مثل الصين، ونسبياً روسيا. ويتم توظيف الذكاء الاصطناعي في مراقبة التظاهرات والاحتجاجات بشكل خطير للغاية من خلال التعرف على هوية معظم المشاركين وضمهم في ملف خاص، أي المراقبة الجماعية.
مستوى آخر من توظيف الذكاء الاصطناعي في المراقبة، هو رصد المكالمات التي تجري بمختلف برامج التواصل سواء الكلاسيكية مثل الهاتف العادي أو بالإنترنت مثل واتساب وسينال وتليغرام والبريد الإلكتروني. لذا، يتم رصد كل المكالمات التي تتضمن كلمات عسكرية وأمنية أو مصطلحات تقنية حساسة، بل يكفي أن تكتب في محرك البحث اسم جنرال ينتمي إلى الدول الكبرى ليتم رصد هوية صاحب البحث وبدء تتبع نشاطه ومعرفة توجهاته.
المراقبة في زمن الذكاء الاصطناعي تضمن تتبع نبرات أشخاص يكونون ضمن قائمة الاستهداف، إذ تتوفر كل من الولايات المتحدة والصين دون غيرهما على برنامج ذكاء اصطناعي قادر على تتبع «بصمات» صوت معين وسط غابة المكالمات التي تجري في العالم، وإن استعمل رقماً مجهولاً وغير مكان إقامته. وتعمل خوارزمية البرامج المتخصصة على محاولة رصد المناورات ومنها تكسير التشفير المستعمل وتكسير برامج تغيير نبرة الصوت.
وبغض النظر عن الجانب الإيجابي للذكاء الاصطناعي في محاربة الجريمة المنظمة والإرهاب، تبدي هيئات ودول تخوفها من هذه التكنولوجيا بسبب المس بالحياة الشخصية.
في هذا الصدد، اتخذ الاتحاد الأوروبي خطوة شجاعة بشأن استخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي في أراضيه، وبلور نواب الاتحاد مشروع قانوناً جديداً خلال الشهر الماضي للمصادقة عليه قريباً.
ويحظر مشروع القانون الأول من نوعه في العالم، أنظمة تحديد الهوية عن بعد في الوقت الحقيقي في الأماكن العامة، وكذلك أنظمة التعرف البيومترية عن بعد التي ليست في الوقت الحقيقي، باستثناء وحيد هو مقاضاة الجرائم الخطيرة وفقط بموجب إذن قضائي.
ويحظر أيضاً أنظمة تصنيف المقاييس الحيوية التي تستخدم خصائص تحديد «حساسة» مثل الجنس أو العرق أو الأصل العرقي أو حالة المواطنة أو الدين أو التوجه السياسي، وأنظمة الشرطة التنبؤية بناءً على الملفات الشخصية أو الموقع أو السجلات الجنائية. كما يحظر أنظمة التعرف على المشاعر من خلال تطبيق القانون وإدارة الحدود ومكان العمل والمؤسسات التعليمية، والجمع العشوائي لبيانات المقاييس الحيوية المستخرجة من الشبكات الاجتماعية أو الصور من أنظمة سي سي تي في (تلفزيون الدائرة المغلقة) لإنشاء قواعد بيانات للتعرف على الوجه تنتهك حقوق الإنسان والحق في الخصوصية.
لقد تخيل الكاتب جورج أورويل في روايته «1984» مستوى معيناً من المراقبة من طرف «الأخ الأكبر»، غير أن الواقع الحالي تجاوز خيال أورويل بعشرات المرات، وهذه ليست سوى البداية. ويراهن المدافعون عن الحريات على أنه كما توجد برامج متطورة للمراقبة، بدأت تظهر برامج أخرى مضادة تكسر هذه المراقبة. وبالتالي، نحن أمام أوجه المواجهة والحرب بين توظيف الذكاء الاصطناعي في المراقبة.
هل تفوق الذكاء الاصطناعي في المراقبة على «الأخ الأكبر»؟
مراقبة رقمية