يتحرك السياسي وفق تصور فكري قد يكون صاحبه أو تأثر به، وإذا قمنا بقراءة عدد من أسباب النزاعات أو سيادة السلام، سيتبين مدى الارتباط الوثيق بين التصورات الفكرية والقرارات السياسية. ومن ضمن الأمثلة البارزة ما عاشته العلاقات المغربية-الإسبانية، حيث أن هيمنة بعض التصورات على حساب أخرى تحّكم في مسار هذه العلاقات، بل وتوجد فرص ضائعة لإحلال السلام لأن دعاة أفكار سلمية لم يكونوا في موقع القرار أو لم جدوا من يؤمن بأفكارهم.
وعمليا، لا يمكن فهم المجهود الذي بدلته إسبانيا طيلة قرون لاحتلال المغرب سنة 1912 دون العودة إلى وصايا إيزابيلا الكاثوليكية (1451-1504) التي أوصت بضرورة احتلال المغرب، وكيف تعاملت غالبية الطبقة السياسية-العسكرية بقدسية مع هذه الوصية. وعمد سياسيون على تطويرها مثل حالة المفكر والمؤرخ كانوفاس ديل كاستيو (1828-1897) في الربع الأخير من القرن التاسع عشر الذي اعتبر إرساء حدود إسبانيا في جبال الأطلس عملا مقدسا، وكان رئيسا للحكومة ومن الذين وضعوا أسس استعمار المغرب في القرن التاسع عشر.
غير أن الفكر السياسي الإسباني يقدم نماذج رائعة لمفكرين بحثوا عن جسور الحوار والتعاون والتسامح في رؤيتهم سواء للدين الإسلامي أو نوعية العلاقات التي يجب أن تسود بين ضفتي مضيق جبل طارق. وعلى رأس هؤلاء أنتونيو دي ليبريخا خواكين كوستا.
أنتونيو دي ليبريخا والفرصة الضائعة
في الكتابة التاريخية، عادة ما يتم اللجوء إلى استعمال “لو حدث”، بمعنى محاولة التكهن بالتغيرات التي كان سيعرفها مجرى التاريخ في حالة وقوع حدث معين. في هذا الصدد، ومباشرة بعد سقوط غرناطة سنة 1492، سيبرز اسم مفكر وهو أنتونيو دي نيبريخا (1441-1521) الذي وضع أسس قواعد النحو في اللغة الإسبانية. وكان مفكرا متفتحا وتجرأ على مناقشة مضمون الإنجيل. وتميز بدفاعه عن حرية التفكير وغلبة المنطق وإعطاء الأولوية للعلم للوصول الى المعرفة الحقيقية. وألف كتابه الشهير “أبولوجيا” أو “الدفاعية” لمواجهة اتهامات الكنيسة له بالشرك الديني نظرا لعدم اتفاقه مع بعض تأويلات الكتاب المقدس. وهو عمل فكري لم يتسامح فيه مع الكذب والجهل والتلاعب باسم الدين والاعتداء على الآخر (في هذه الحالة المسلمين). ويعتبر أول نداء في إسبانيا ضد الرقابة ولصالح حرية التعبير حينئذ وألمح أحيانا الى حرية المعتقد، مما كان سيكون سببا في إعدامه. لقد كان بمساهماته الفكرية الجريئة أحد مهندسي انتقال إسبانيا من العصور الوسطى الى العصور الحديثة، برهانه على فكر النهضة الأوروبية.
كان أنتونيو دي ليبريخا كمفكر وفيلسوف يدرك قيمة الحضارة الأندلسية التي أعطت مكانة للمنطق والعلم، وتأثر بهذه الحضارة. غير أن مسيرته الفكرية تزامنت وسقوط غرناطة، أي نهاية السلطة الإسلامية في هذه الديار، وبدء فرض الدين المسيحي على المسلمين ثم طردهم حقا، وهيمنة محاكم التفتيش. ولو كان قد صادف مرحلة متسامحة مثل القرن الثالث عشر، عندما كانت السلطة الإسلامية مازالت تحكم في مناطق في إسبانيا، أو بعد القرن السادس عشر عندما تراجعت وحشية محاكم التفتيش، لكان قد أنتج فكرا يعترف بدور الحضارة الأندلسية في تقدم إسبانيا، فقد كان فكره ينحو نحو هذا الاتجاه بسبب اعترافه بسمو العلم على الدين.
ولهذا، يعد أنتونيو دي ليبريخا من الفرص الفكرية الضائعة التي كانت ستغير التفكير حول المسلم والمغرب ليس في إسبانيا بل في النهضة الأوروبية، وبالتالي ممارسة تأثير كبير على علاقات ضفتي مضيق جبل طارق والعالم الإسلامي والمسيحي، بمفهوم تغيير ولو نسبي لمجرى تاريخ العلاقات بين المغرب وإسبانيا.
خواكين كوستا رائد التعاون
بعد مرور قرابة أربعة قرون وبالضبط في الربع الأخير من القرن التاسع عشر وفي خضم دعوات استعمار المغرب، ستظهر رؤية أخرى إيجابية نحو المغرب والإسلام، وكان وراءها المفكر خواكين كوستا (1846-1911)الذي شجع على التوسع الاقتصادي في إفريقيا واعتبر المغرب مكملا لإسبانيا؛ فقد دعا إلى نوع من الاندماج والتكامل تشرف عليه إسبانيا لأنها أخذت بأسباب التقدم مقارنة مع المغرب.
كانت رؤية خواكين كوستا تميل إلى التعاون أكثر من الغزو، وهي متقدمة على وقتها وقريبة من عمل الجمعيات غير الحكومية المتعارف عليها في الوقت الراهن. وإذا كان كانوفاس ديل كاستيو يحث على غزو المغرب، فقد طرح كوستا في المقابل ضرورة تعزيز الدولة المغربية والحفاظ على “شخصيتها التاريخية”. ومن الكتابات العميقة لهذا المفكر حول المغرب، نجد ما جاء في خطابه يوم 30 مارس 1884 في مسرح قصر الحمراء في مدينة غرناطة خلال اجتماع هام للمفكرين لبحث قضية المغرب “المغاربة كانوا أساتذتنا ويجب احترامهم، وكانوا إخواننا ويجب أن نحبهم، وقد كانوا ضحايانا ويجب جبر الضرر. سياستنا تجاه المغرب يجب أن تكون سياسة إصلاحية وسياسة وجدانية وسياسة جبر الضرر”.
وبعد حرب 1909 بين سكان الريف وإسبانيا بالقرب من مليلية والمآسي التي خلفتها ومنها انتفاضة برشلونة فيما يعرف “الأسبوع الأسود” المناهضة للحرب والتجنيد، غيّر خواكين كوستا رأيه وتبنى أطروحة “المغادرة” أي مساعدة المغرب من بعيد وفي احترام لتاريخه واستقلاله. وكتب في هذا الشأن: “منذ عشرين سنة، كان الزمن مناسبا للتفكير في المغرب، ولكنهم تركوني وحيدا، أحسن ما نفعل الآن هو مغادرة هذه المنطقة الضيقة والعقيمة التي لن تعوض إسبانيا عن الدم والكنوز التي ستكلفها“.
أطروحة خواكين كوستا النوعية كانت جرأة سياسية وفكرية في سياق محموم تميز بدعوات مجمل السياسيين والمفكرين إلى الحرب ضد المغرب خاصة في ظل المواجهات العسكرية في الريف، وفي ظل تعاظم الخطابات الداعية إلى ضرورة تولي إسبانيا مهمتها الدينية بتمسيح المغرب. ورغم أنه كان مرجعا ثقافيا وأخلاقيا للمثقفين وقتها، عانى خطابه من التهميش، فقد كانت إسبانيا تستعد لاحتلال المغرب وتتقبل آراء الغزو المستوحاة من السياسي والمفكر كانوفاس ديل كاستيو.
وعودة الى مفهوم وتصور “لو حدث” الذي يغري الباحثين أحيانا للبحث عن تأويل مخالف للتاريخ، “لو” كان فكر أنتونيو دي ليبريخا ثم خواكين كوستا قد هيمن في دوائر القرار السياسي-العسكري في إسبانيا، لكان مسار العلاقات المغربية-الإسبانية مختلفا. إنها فرص فكرية ضائعة لم تنجح في التأثير على القرار السياسي في الماضي، فهل تفيد في الحاضر؟