يرافق الأزمة الشائكة والصامتة بين الرباط وباريس نقاشات في الجانب المغربي بشأن ضرورة التخلص من النموذج الفرنسي في التنمية الذي يعتمده المغرب، وضرورة التخلص من التبعية لهذا البلد الأوروبي. ويذهب النقاش في اتجاه غير موفق بالتركيز على نقاط ضعف فرنسا وضرورة قتل “اللغة الفرنسية”.
وتمر العلاقات الثنائية منذ صيف السنة الماضية بأزمة هي الأسوأ خلال الثلاثة عقود الأخيرة، متجاوزة حدة أزمة 2014. ولعل تجميد الزيارات بين وزراء بلدين منذ بداية صيف السنة الماضية يعد العنوان المعبر عن عمق هذه الأزمة. واعتاد جزء من النخبة المغربية طرح مسألة التبعية لفرنسا وضعف هذا البلد وبأنه لا يشكل النموذج إبان الأزمات، ولكن ما أن تمر الأزمات حتى يعم الصمت، ويتم تجميد هذه المطالب.
والواقع أن هذا الجزء من النخبة يسقط في التناقض في أعمق معانيه عندما يطالب بضرورة التخلص من التبعية لفرنسا، لأنه هو التيار الذي يردد بدون ملل ولا كلل رواية “الاستثناء المغربي”، بمعنى انفراد المغرب في طريقة تسيير وتدبير أموره بمعزل عن الخضوع لأي نموذج مستورد. إذن، كيف يمكن التخلص من التبعية لفرنسا بينما المغرب ينفرد “بالاستثناء”. إن منطلقات هذا النقاش التي يتم اختزاله في ضعف فرنسا من جهة، وضرورة التخلص من النموذج الفرنسي من جهة أخرى هي منطلقات تفتقد لرؤية الواقع وإن كانت مقبولة شكلا نسبيا:
في المقام الأول، فرنسا مثل باقي الدول الأوروبية فقدت القدرة على المشاركة، بفعالية أكبر عكس ما كان يحدث في الماضي، في صناعة القرار الدولي نظرا لظهور قوى إقليمية تنافسها في البحر الأبيض المتوسط مثل تركيا، وظهور قوى على المستوى العالمي مثل الصين. وهي في هذا شأنها شأن بريطانيا. لكن فرنسا ستستمر ضمن الدول الأكثر تقدما في مختلف الصناعات ومنها الصناعة العسكرية والنووية والسيارات وقوة كبيرة في مجال الزراعة، شأنها شأن بريطانيا وألمانيا. ويتم أحيانا الترحيب ببعض المعطيات لكن دون التأمل بعمق في حقيقتها. وخلال الشهر الماضي مثلا، تناولت وسائل الإعلام العالمية خبر تحول الهند الى القوة الاقتصادية الخامسة في العالم على حساب بريطانيا ومن قبلها فرنسا. هذا المعطى يبقى نسبيا للغاية: الدخل الفردي في الهند بالكاد يصل الى 1900 دولار سنويا بينما في بريطانيا يتجاوز 40 ألف وفي فرنسا 37 ألف سنويا. في الوقت ذاته، مستوى العيش في هذين البلدين والبنيات التحتية يبقى أعلى بكثير مقارنة بالهند؛ كما أن استثمارات البلدين في العالم يتفوق بسنوات ضوئية على الاستثمارات الهندية.
في المقام الثاني، التنمية في فرنسا تقوم على تشجيع البحث العلمي وعلى الشفافية في التسيير وربط المسؤولية بالمحاسبة، ثم التناوب في تسيير مؤسسات الدولة. وعليه، هل يمتلك رئيس فرنسا الحالي أو قبله قصورا وإقامات وحسابات في دولة أجنبية ومنها في العالم العربي، ونخص هنا بالذكر المغرب؟ هل يتساهل القضاء الفرنسي مع المسؤولين الفرنسيين المتورطين في قضايا الفساد؟ هل تتردد الدولة الفرنسية في تشجيع البحث العلمي؟ لا يوجد رئيس فرنسي واحد يمتلك إقامة خارج حدود بلاده أو يملك حسابا بنكيا في الخارج. لا يمكن لأي مسؤول فرنسي الإفلات من العقاب مهما كان شأنه؛ ولعل مشاكل الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي مع القضاء مثالا في هذا الشأن. لا يمكن لأي مسؤول ولو كان “سوبرمان” البقاء في منصبه السياسي والاقتصادي والعسكري والأمني أكثر من ولايتين. ونطرح الأسئلة بصيغة مختلفة: كم من مسؤول مغربي، وضد القانون، لديه حسابات وممتلكات عقارية في الخارج وبالضبط في فرنسا دون أن يتحرك القضاء المغربي لفتح تحقيق؟ كم من مسؤول مغربي يحتل كرسي مؤسسة ما وكأنه إرث عائلي لا يمكن التخلي عنه، رغم أن تسييره كارثي؟ كم تخصص الدولة المغربية للبحث الجامعي؟ لا شيء تقريبا.
لقد اعتاد عدد من المثقفين المغاربة اختزال تأخر المغرب في اللغة الفرنسية ويطالبون باللغة الإنجليزية. تخلف المغرب لا يعود الى اللغة بل الى أسباب بنيوية-تاريخية، أبرزها تأخر دخول المطبعة مما حال دون نشر المعرفة، ثم تأخر تشييد الجامعات علاوة على الفساد وعدم محاسبة المسؤولين عن هذا الفساد. عدد من الدول تقدمت بدون الاعتماد على اللغة الإنجليزية مثل تركيا وكوريا الجنوبية والتشيلي، لأنها اهتمت بالجامعة وشجعت البحث العلمي وحاربت الفساد السياسي والإداري. ودول من الكومنويلث تتحدث الانجليزية وهي في أسفل سلم التنمية عالميا. تفيد التقارير الدولية بأن مستوى اللغة الإنجليزية في تركيا تقريبا هو نفسه في المغرب، لكن تركيا تقدمت في مختلف القطاعات وخاصة الصناعية بينما المغرب ما زال لم يجد طريقه.
منذ أكثر من ثلاثة عقود، والدولة المغربية وجزء من نخبها تهدد بالتحول الى الإنجليزية، لكن الواقع شيء آخر، عدد من مسؤولي البلاد الذين كانوا يرددون هذه الشعارات، استثمروا في مدارس وجامعات خاصة في المغرب تقوم بالتدريس باللغة الفرنسية.
مشكل علاقة المغرب بفرنسا يجب طرحه على مستوى آخر، وهو: لماذا توجد دول ونخب في إفريقيا تحث على فتح ملف جرائم فرنسا الإستعمارية، بينما الدولة المغربية ونخبها صامتة على هذا الملف؟ وفي تساؤل آخر، من الذي قدم تسهيلات سخية وكريمة، تصل الى مستوى العطاء، للشركات الفرنسية مقابل الاستثمار وتدبير بعض القطاعات في المغرب إلى مستوى اعتقدت باريس أن المغرب هو حديقتها الخلفية؟ وفي تساؤل آخر، من الذي يمنع القضاء من فتح ملف توفر مسؤولين مغاربة سابقين وحاليين على حسابات بنكية وعقارات في فرنسا نفسها؟
ومن المفارقات الكبيرة في الحديث عن التخلي عما يفترض النموذج الفرنسي في التنمية، تولى وزير التعليم الحالي شكيب بنموسى إعداد نموذج جديد للتنمية البشرية في المغرب. وحدث أن ناقش وعرض النموذج التنموي مع السفيرة الفرنسية في الرباط قبل عرضه على المؤسسات المغربية، الأمر الذي أثار وقتها سخرية واحتجاجا. ومنطقيا، كيف يمكن عرض تقرير يناهض فرنسا على ممثلة فرنسا في الرباط؟
كل نموذج تنموي يبدأ بمحاربة الفساد وبنهج الشفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة وبطرق نشر المعرفة ومنها استراتيجية ترجمة والرفع من التعليم، ثم تولي أبناء الوطن تسطير استراتيجية التنمية تكون واقعية وتساير إيقاع الوطن وإمكانياته وليس استيرادها جاهزة من مكاتب الدراسات الاستراتيجية الأجنبية وكأنها: Prêt-à-porter. بينما دور اللغات ومنها الإنجليزية تكون مكملة، وبدأت تصبح ثانوية أمام الترجمة التي توفرها برامج الذكاء الاصطناعي التي تتطور باستمرار الى مستوى مدهش وتتفوق تدريجيا حتى على أعتى المترجمين.