احتل المغرب المرتبة 123 في التقرير الأخير للتنمية البشرية، الذي تصدره منظمة الأمم المتحدة، وتأخر بمركز واحد عن السنة الماضية 122، وبهذا يكون في أسفل ترتيب قائمة الدول في مجموع البحر الأبيض المتوسط، وراءَ دول شمال إفريقيا وأوروبا. ويبقى السؤال: لماذا أصبحت التنمية في المغرب كأنها محاصرة في زنزانة أبدية؟
ويعد تقرير الأمم المتحدة حول التنمية البشرية في العالم بمثابة امتحان لدول العالم، فهو يقيس مستوى التنمية بمفهومها الشامل، وأساسا التقدم، وكيف ينعكس على المواطن في مجال الشغل والصحة والتعليم ضمن آليات أخرى لقياس التنمية. ومهما تكن تصريحات حكومة أي بلد، صريحة أو تبيع الوهم للمواطن، فتقرير الأمم المتحدة حول التنمية هو الامتحان الذي يعني النجاح أو الرسوب في تسيير أمور الوطن.
ومنذ ما يقارب العَقدين، يحتل المغرب المراكز العشرين ما بعد المائة، حيث يتراوح ما بين 121 و126، وهذا يعني أن التنمية في المغرب حبيسة زنزانة لا تغادرها، فمن يا ترى يكون السجان؟
علاقة المغرب بالتنمية تعد مفارقة غريبة، فقد كانت بعض الدول خلال بداية الستينات في مستوى المغرب أو أقل، مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية، وكان الفارق في الدخل مع دول أوروبية منتصف السبعينات مثل البرتغال لا يتعدى ثلاثة أضعاف، وفي حالة إسبانيا أربعة أضعاف. وبعد مرور ستة عقود، أصبحت سنغافورة وكوريا الجنوبية من الدول التي يستشهد بها في التنمية في العالم، في حين تتجاوز إسبانيا المغرب ب 14 مرة سواء في الدخل الفردي، أو الدخل القومي العام للبلاد. هذه المقارنة بين الأمس واليوم ستجر لا محالة الى استخلاص نتيجة “صعبة القبول والنطق” مفادُها أن تلك التنمية المتقدمة، في بداية الستينات في المغرب، كانت مرتبطة بمخلفات إدارة الاستعمار عندما كان يشرف على معظم القطاعات.
وعت الإدارة المغربية بتأخرها في مجال التنمية خاصة مع المحيط الإقليمي حيث تتقدم الجزائر (91) على المغرب ب 31 مركزا وتتقدم إسبانيا على المغرب (20) ب 102 مركزا، وهذا يعني فقدان المغرب للركب الإقليمي. وكان الملك محمد السادس قد دشن في السنوات اللاحقة لتوليه العرش مشروع “التنمية البشرية”، وبعد سنوات من التطبيق والتنفيذ، اعترف بنفسه بفشل هذا المشروع وطالب قبل جائحة كوفيد 19 ببلورة مشروع آخر، على أمل تجاوز هذا الوضع غير الطبيعي الذي يوجد عليه المغرب. ويبقى السؤال الرئيسي والمقلق: لماذا تفشل مشاريع التنمية في المغرب؟ ولماذا يستمر المغرب في مرتبة غير مشرفة في سلم التنمية العالمي؟ في هذا الصدد، ووفق رؤيتنا، يمكن التركيز على ثلاثة عناصر تعد رئيسية لفهم هذا الفشل المتكرر، وهي:
العنصر الأول: يفتقر المغرب لمنظومة أمنية وقضائية متطورة لمحاربة الفساد، إذ شهد المغرب عمليات اختلاس مروعة لبرامج في قطاعات استراتيجية مثل قطاع التعليم والصحة. وفتح القضاء منذ سنوات تحقيقا في اختلاس مئات الملايين من الدولارات في “برنامج التعليم الاستعجالي”، الذي كان يرمي الى تطوير منظومة التعليم، لينتهي بأعلى مستوى من الفشل والاختلاس في تاريخ المغرب. لا يمكن تنفيذ برامج تنمية حقيقية في ظل غياب مراقبة قوية للمال العام. ومن نتائج الفشل والاختلاس ارتفاع مديونية المغرب، إذ كل حكومة تقترض من المؤسسات المالية الدولية، لتصبح مديونية المغرب تكاد تصل الى الناتج القومي الخام.
العنصر الثاني، يتجلى في محاربة الدولة المغربية للنقد البناء، إذ يتم تأويل كل عملية نقد لمشاريع الدولة خاصة إذا كانت تناقش مقترحات ومشاريع ملك البلاد بمثابة تهجم على الدولة. وارتفعت أصوات كثيرة منذ سنوات تفيد بفشل “مشروع التنمية البشرية”، وتعرض كل من انتقد الى وابل من السب والقذف والتشهير بكل المصطلحات التي يتكرم بها القاموس العربي. وعندما اعترف الملك نفسه بمحدودية مشروع “التنمية البشرية”، أُسْقِط في يدهم، ولكن مؤقتا فقط.
العنصر الثالث: يعاني المغرب خلال العقدين الأخيرين من “سرطان حقيقي”، يتجلى في إحالة تيارات ولوبيات في الدولة عمليات التخطيط الاستراتيجي إلى مكاتب دراسات أغلبها فروع لمكاتب أجنبية. وينبهر المسؤولون المغاربة، وجزءٌ من الرأي العام، بهذه الدراسات لأنها صادرة عن مكاتب دولية ذات أسماء براقة. وأظهرت التجربة كيف تفتقر أغلب دراسات مكاتب الدراسات الأجنبية للرؤية الواقعية، بل تقوم في معظم الأحيان بتطبيق المناهج نفسها لدولة معينة على أخرى، مع تغيير الأرقام والأسماء. ونتساءل: لماذا نجحت دول في بناء تنمية قوية خلال العشرين سنة الأخيرة، دُونَ الاعتماد على مكاتب الدراسات الأجنبية، بينما تراجعت دول تعتمد هذه المكاتب في التنمية مثل حالة المغرب. والطامة الكبرى في حالة المغرب هو توفر معظم الوزارات على خبراء يجري تهميشهم. ومن أبرز المفارقات في هذا الشأن، كانت الدولة وبتوصية من مكتب دراسات خارجي قد أعلنت عن بدء انتقال المغرب الى مصاف الدول الصاعدة، وقتها نبهت أصوات مغربية صعوبة قبول هذه الفرضية نظرا لغياب الشروط الموضوعية. وتعرضت لوابل من التنديد، وبعد ثلاث سنوات، اعترفت الدولة بصعوبة الانتقال الى مصاف الدولة الصاعدة.
استمرار المغرب في مرتبة غير مشرفة في ترتيب التنمية البشرية عالميا يعد مفارقة تاريخية واقتصادية واجتماعية بامتياز. الرأسمال البشري وموقعه الجغرافي وقربه من القارة الأوروبية وتوفره على جالية تتجاوز خمسة ملايين هي عوامل تسمح له بقفزة نوعية استثنائية، لكن شريطة القضاء على الفساد وتقبل النقد البناء والتخلي عن الأوهام التي تبيعها مكاتب الدراسات الأجنبية. إنها عناصر وصفة قادرة على فك أسر المغرب من زنزانة 123.