ارتفع القلق دوليا جراء احتمال فرضية امتداد الحرب الروسية ضد أوكرانيا إلى دولة عضو في الحلف الأطلسي وهي ليتوانيا، هذه الأخيرة التي أقدمت على تطبيق العقوبات الأوروبية على مرور البضائع نحو الجيب الروسي المطل على البلطيق، كالينينغراد وستمنع مواد أخرى مستقبلا ومنها البترول والفحم الحجري. وتعتبر موسكو الإجراء اعتداء على سيادتها يستوجب الرد.
وتتوفر روسيا على منطقة استراتيجية في قلب أوروبا وهي كالينينغراد الواقعة جنوب ليتوانيا وشمال بولونيا وتطل على بحر البلطيق، وتتمتع بأعلى معدل استراتيجي عسكري في الوقت الراهن نظرا لموقعها الجغرافي المطل على بولونيا ودول البلطيق والسويد وفنلندا وقربها من بريطانيا وألمانيا. وقامت روسيا بنشر أسلحة فتاكة من صواريخ فرط صوتية وسفن حربية مما يسهل عملية ضرب الدول الأوروبية الكبرى. وارتفع منسوب القلق في المنطقة جراء مناورات روسيا من جهة ومناورات الحلف الأطلسي من جهة أخرى في البلطيق خلال الثلاثة أسابيع الأخيرة.
ويتزامن هذا القلق مع تطبيق الاتحاد الأوروبي عقوبات على روسيا. وتطبق ليتوانيا ما يعرف بالمجموعة الرابعة من العقوبات الأوروبية على روسيا ابتداء من 18 يونيو الجاري وتشمل منع مرور مواد الحديد والفولاذ والمنتجات التكنولوجية مثل الحواسيب، كما ستطبق حزمة أخرى من العقوبات يوم 10 يوليوز المقبل بمنع الإسمنت والكحول ومواد أخرى، ثم ابتداء من 10 أغسطس/آب منع الفحم الحجري وبعض المعادن، ويوم 5 ديسمبر المقبل منع البترول.
وتصل روسيا إلى كالينينغراد برا عبر الأراضي الليتوانية من خلال اتفاقية جرى التوقيع عليها سنة 2004، وتنص الاتفاقية على مرور السلع وحرية تنقل المواطنين الروس الى هذه المنطقة. وفي تطبيقها للعقوبات الأوروبية، تكون ليتوانيا وفق موسكو، قد خرقت الاتفاقية واعتدت على مصالح روسيا. وتهدد روسيا بالرد في القريب العاجل إذا لم تتراجع لتوانيا عن سياستها. قالت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا الثلاثاء الماضي، إنّ ليتوانيا تتصرف “بعدائية وعدوانية تجاه روسيا”.
وكما تدربت روسيا على مناورات عسكرية منذ سنة 2017 على غزو أوكرانيا، فقد أجرت رفقة القوات البيلاروسية مناورات عسكرية سنة 2017 تقوم بموجبها بالسيطرة على ممر سوالكي في ظرف ساعات قليلة مثلما حصل سنة 2014 مع السيطرة على شبه جزيرة القرم. وتفيد الصحافة الروسية بأن عملية السيطرة على هذا الممر لربط كالينينغراد بباقي الأراضي البيلاروسية ثم الروسية عملية سهلة للغاية بسبب ضعف الجيش الليتواني ثم ضعف الحلف الأطلسي في المنطقة علاوة على تموقع قوات روسية ضخمة بما فيها السلاح النووي في كالينينغراد.
وتوجد روسيا أمام خيارين، واحد سلمي وآخر حربي. ويتجلى الخيار السلمي في مواجهة ليتوانيا من خلال وقف التعامل التجاري ودفع بيلاروسيا والصين الى ذلك لاسيما وأن لتوانيا اعترفت مؤخرا بالتايوان كدولة. وهذا الخيار يعني انهيار الاقتصاد اللتواني الذي يرتبط بشكل كبير بدول الجوار شرقا.
والخيار الثاني وهو خيار حربي مستوحى من عقيدة الكرملين وهي توظيف موارد روسيا العسكرية للدفاع عن المواطنين ذوي الجذور الروسية كما جرى في التدخل في جورجيا سنة 2008 ثم في شبه جزيرة القرم سنة 2014 علاوة على التدخل الحالي بضم شرق أوكرانيا تحت ذريعة حماية ساكنة إقليم الدونباس. وهذا يعني تدخل روسيا للدفاع عن مصالح مواطنيها في كالينينغراد تحت ذريعة التعرض للحصار الغربي عبر ليتوانيا. في الوقت ذاته، بدأت روسيا تروج لفرضية التنازع مع ليتوانيا حول ميناء كلايبيدا الاستراتيجي، وكان الرئيس السوفياتي الأسبق ستالين قد منح ليتوانيا في إطار الاتحاد السوفياتي هذه المدينة، في سيناريو شبيه لما وقع لاحقا عندما منح الرئيس خروشوف شبه جزيرة القرم إلى أوكرانيا. ولا يمكن للحلف الأطلسي الدفاع عن عضو إذا وقع بينه وبين دولة أخرى نزاع حول ملكية أراض معينة بل الدفاع على الأراضي المعترف بها لدى الأمم المتحدة.
ويرى الخبير الاستراتيجي تيموثي آيش في تصريحات لقناة سي إن بي سي CNBC أن روسيا قد تقدم على فرض حصار بحري على موانئ ليتوانيا بسبب توفرها على سفن حربية كثيرة في كالينينغراد.
ووسط كل هذه التطورات، تدرك دول البلطيق صعوبة دفاع الحلف الأطلسي عن أراضيها، مما دفع الوزيرة الأولى في إستونيا كايا كلاس الى القول لجريدة فاينانشال تايمز منذ أيام “المخطط الدفاعي الحالي للحلف الأطلسي يتجلى في تركنا عرضة للغزو الروسي قبل تحريرنا بعد مائة وثمانين يوما، وقتها ستكون إستونيا قد محيت من الخريطة”. وترتفع أصوات وسط أوروبا تطالب بإعفاء دول البلطيق من العقوبات ضد روسيا.
في غضون ذلك، يبقى الجيب الروسي كالينينغراد بمثابة مسمار جحا الروسي في قلب الغرب الذي تستغله موسكو لفرض واقع جديد في الدفاع عن مصالحها.