تحولت تركيا إلى لاعب رئيسي في مفاوضات السلام الجارية بين روسيا وأوكرانيا وبهذا تكتسب مكانة جديدة في المسرح الدولي بعدما حققت ربحا جيوسياسيا في البحر الأبيض المتوسط في الأزمة الليبية وخاصة في مواجهة فرنسا.
وبعد اندلاع الحرب الروسية ضد أوكرانيا، وجدت تركيا نفسها في موقف حرج للغاية وعلى مستويات متعددة، فهي مطالبة بالالتزام بالعقوبات التي يفرضها الحلف الأطلسي على تركيا، ومطالبة بالتوازن مع روسيا لاسيما بعدما احتجت الأخيرة على بيعها لأوكرانيا طائرات بيرقدار، ثم الحفاظ على مصالحها التجارية.
وبعدما فشلت فرنسا في الوساطة بين الغرب وروسيا بحكم انخراطها في العقوبات ضد موسكو بل والتزامها بإرسال الأسلحة إلى القوات الأوكرانية، فقد نجحت تركيا رغم عضويتها في الحلف الأطلسي في قبول موسكو وكييف استضافة مفاوضات السلام بين الطرفين. ولم تمارس واشنطن ضغوطا على أنقرة لكي تنخرط في العقوبات الغربية إدراكا منها بصعوبة الاستجابة التركية ثم انتقائية الغرب في فرض العقوبات حيث يترك النفط والغاز خارج دائرة العقوبات ويريد فرضها على صادرات الزراعة مثلا.
ولعل النجاح الكبير حتى الآن لتركيا هو أنها منعت السفن الحربية من العبور نحو البحر الأسود بما فيها الروسية والغربية، وبهذا فقد عملت على تحاشي وقوع مواجهة مفترضة في حال انفلات الوضع من السيطرة. ونتيجة هذا القرار، مازالت السفن الروسية الحربية في البحر الأبيض، بينما تمركزت السفن الحربية الغربية في سواحل شمال إيطاليا. ولم تغضب حتى الآن أي طرف، فقد تفهمت مخاوف موسكو على الأمن القومي الروسي، كما رحبت كييف بمواقف أنقرة التي تدافع عن وحدة أراضي أوكرانيا.
غير أن الغرب يعتقد في استغلال تركيا لهذه الأزمة لتعزيز مكانتها الجيوسياسية مع ميل لروسيا، وهذا ما يذهب إليه كتاب جماعي صدر في فرنسا منذ أيام تحت إشراف إيزابيل فاكون بعنوان “روسيا-تركيا: تحدي للغرب؟” يبرز سيادة التصور نفسه في موسكو وأنقرة للسلطة والعلاقات الدولية والطموحات في مسرح العلاقات الدولية.
وبعد مرور شهرين على الحرب، لم يعد الغرب يراهن على الصين لكبح جماح الكرملين في الحرب ضد تركيا، ولا يمكن لمنظمة الأمم المتحدة لعب أي دور هام بعدما تحولت إلى مسرح للمواجهة بين الغرب وروسيا والصين، ويبقى الرهان الوحيد على نجاح تركيا في جورها العلني أو السري في تقريب وجهات النظر بين موسكو وكييف.
ويحاول الرئيس التركي طيب رجب أردوغان توظيف علاقاته الشخصية لتحقيق تقدم في هذا الشأن. إذ تجمعه علاقات مميزة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي التقاه أكثر من مرة ويتقاسمان الكثير من الآراء حول العلاقات الدولية، كما التقى خمس مرات الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. فمن جهة، تدرك موسكو أن أنقرة تحولت إلى بوابة رئيسية للتفاهم مع الغرب، ومن جهة أخرى، تدرك كييف أهمية تركيا كعنصر رئيسي في البحث عن هدنة وقف واستمرار مفاوضات السلام.
وتناولت عدد من مراكز الدراسات الاستراتيجية في الغرب والصين وروسيا والهند الدور التركي الحساس في هذه الحرب، وهناك إجماع على حفاظها على وضع مقبول من الجميع. وتساءل المعهد الأمريكي للتفكير الاستراتيجي كارنيغي الأسبوع الماضي في ورقة بحثية له عن الدور التركي، ويبرز المركز ما يلي: يطرح الغزو الروسي لأوكرانيا مجموعة جديدة ومعقدة بشكل متزايد من التحديات لتركيا. حتى الآن، تتقارب تركيا في الغالب مع حلفائها الغربيين في دعم أوكرانيا، مع تجنب حرق الجسور مع روسيا. ولكن بينما تحاول تركيا الاستفادة من موقعها الإقليمي لتسهيل محادثات السلام بين روسيا وأوكرانيا، فإن تعرضها لروسيا على جبهات متعددة وتعاونها المتزايد مع أوكرانيا يضعان أمام تركيا خيارات صعبة”.
تستمر تركيا في المناورة الشائكة لتحافظ على دورها في الوساطة، وهي وساطة تعزز من دورها الجيوسياسي في الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط. ويعد دورها المنعطف الرئيسي الثاني في ملفات شائكة تهم الغرب وروسيا بعد دورها الكبير في التأثير على مجرى الأزمة الليبية نحو فرض واقع معاكس لطموحات بعض الدول مثل فرنسا.