تعتبر فرنسا من الدول التي ساهمت في صنع الخريطة العالمية خلال القرنين الأخيرين، وذلك بسبب استعمارها جزءا هاما من العالم خاصة في القارة الأفريقية رفقة بريطانيا. وتفقد الآن الكثير من نفوذها وخاصة في حدودها القريبة مثل منطقة المغرب العربي (شمال أفريقيا) ومنطقة الساحل الأفريقي المطلقة عليها علاوة على شرق البحر المتوسط. وتساهم المشاكل الثنائية القائمة بين دول المنطقة مثل المغرب والجزائر في مزيد من إضعاف باريس.
وعمليا، عندما يجري تأمل الخريطة العالمية وخاصة القارة السمراء، تظهر جليا بصمات فرنسا في رسم حدود دول وإنشاء أخرى خدمة لمصالحها تماشيا مع مقولة «رحل الاستعمار وبقيت مصالحه». لكن فرنسا اليوم ليست هي فرنسا الأمس، فهذا البلد يمر بأزمات متعددة منها أزمة الهوية وأزمة نوعية المكانة التي ترغب فيها في المسرح الدولي. ويسيطر على الفرنسيين نوع من الشعور بالهزيمة، ولهذا يحصل المرشح الشعبوي المرتقب للرئاسة الفرنسية في الانتخابات المقبلة وهو إريك زمور على تعاطف لأنه يعد الفرنسيين باستعادة أمجاد الماضي.
وتوجد ثلاثة تحديات أمام فرنسا في مناطق نفوذها القريبة، وهي منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط ثم شمال أفريقيا ثم الساحل الأفريقي، وهي تحديات مختلفة وبلاعبين سياسيين مختلفين.
التحدي التركي: بدأت تركيا تقلص من النفوذ الفرنسي في البحر الأبيض المتوسط وخاصة شرقه، من خلال ملفين رئيسيين وهما: الملف الليبي ثم الملف اليوناني. ورغم المؤتمرات التي تحتضنها باريس حول ليبيا، فقد فقدت المبادرة حول مستقبل هذا البلد بسبب الثقل التركي. وفي الوقت ذاته، لم تعد متحمسة لدعم اليونان مثلما كان الحال من قبل في ملف التنقيب عن النفط والغاز. ويعود هذا إلى تحول تركيا إلى قوة عسكرية سواء بصناعتها الحربية أو قوة جيشها. وصرح أدميرال سلاح البحر الفرنسي بيير فانديير، يوم 24 تشرين الأول/أكتوبر الماضي خلال الإشراف على الكلية الحربية البحرية، بحديثه عن القوة المتصاعدة لتركيا، التي تكتسبها من خلال تصنيع عشرات السفن الحربية من فرقاطات ودعم لوجيستي وكورفيتات، وحذّر من انعكاس ذلك على مصالح فرنسا بل وقال إنها بدأت التأثير على هذه المصالح. لا أحد يعلم كيف سينتهي الصراع الفرنسي-التركي ولكن من نتائجه المرتقبة والتي بدأت تظهر الآن هو تراجع نفوذ فرنسا.
تحدي الساحل: تعد منطقة الساحل الأفريقي الممتدة من موريتانيا حتى تشاد منطقة نفوذ فرنسي بامتياز، وتزداد أهميتها، ليس بسبب الإرهاب الذي يبقى ثانويا، بل بسبب نوعية المعادن التي تتوفر عليها المنطقة وهي معادن نفيسة لصناعة الحاضر والمستقبل من أجهزة هاتف وكمبيوترات وسيارات تعمل بالكهرباء. وتحكمت فرنسا في المنطقة عبر اتفاقيات ثنائية ذات طابع استعماري ثم عبر دعم والتخطيط للانقلابات ضد من اعتبرتهم باريس دائما متمردين على «السيادة الفرنسية». وخلال السنة الأخيرة، تشهد المنطقة تغييرا كبيرا بسبب دخول لاعب جديد وهي روسيا سواء عبر ميليشيات مسلحة مثل فاغنر أو عبر اتفاقيات رسمية مع موسكو. ولعل المنعطف الذي يشكل أكبر ضربة لسياسة باريس في المنطقة هو زيارة وزير خارجية مالي عبد الله ديوب إلى موسكو الخميس الماضي ولقاءه بنظيره الروسي سيرغي لافروف وتقديم الطلب الرسمي للحصول على المساعدة العسكرية الروسية. وقال في ندوة صحافية «كلما واجه بلدنا وضعا صعبا وقفت روسيا إلى جانبنا وساعدتنا ودعمتنا. والآن نمر بمثل هذا الوضع الصعب والمعقد، ولذلك قد نطلب المساعدة من صديقنا». وتعد هذه التصريحات هامة لأنها تضفي الشرعية الكاملة ليس فقط على تواجد روسيا بل تواجد أذرعها مثل قوات فاغنر لمواجهة الإرهابيين. وتعد مالي مقدمة لدول أخرى في المنطقة لكي تسير على نهجها في الرهان على روسيا والصين. وتعتبر فرنسا هذه السياسة خيانة حقيقية من طرف قادة هذه الدول.
التحدي المغاربي: ولعل أكبر تحدي يواجه فرنسا هو علاقاتها مع منطقة شمال أفريقيا وخاصة مع بلدين وهما المغرب والجزائر. وخلال العقود الأخيرة، عندما تكون العلاقات متوترة بين فرنسا والجزائر تكون جيدة مع المغرب، وعندما تقع أزمة مع المغرب تكون علاقات باريس جيدة مع الجزائر. ولم تنجح فرنسا في توازن في علاقاتها مع بلدين يعدان استراتيجيين لها سواء اقتصاديا أو سياسيا أو ثقافيا. ويبقى المثير أنه خلال السنة الحالية 2021 ساءت علاقاتها في آن واحد مع فرنسا والمغرب. وساءت مع الجزائر بسبب التوتر الثنائي مثل مشكل الذاكرة مع الجزائر أو تصريحات الرئيس ماكرون الذي نفى وجود أمة جزائرية، وهي التصريحات التي جعلت الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون لا يجيب على هاتف ماكرون. وشهدت توترا مع المغرب بسبب برنامج التجسس الإسرائيلي بيغاسوس، حيث جرى تجميد الزيارات الثنائية بين مسؤولي البلدين وعدم التوقيع على عدد من الاتفاقيات.
كما يلعب ملف الصحراء الغربية دورا رئيسيا في توتر باريس مع أكبر بلدين في شمال أفريقيا. إذ تتهم الجزائر فرنسا بتبني سياسة مؤيدة للمغرب، وطالبتها بتحقيق توازن في هذا الشأن ومنها انتقاد فرنسا بسبب موقفها الرافض لمراقبة قوات المينورسو حقوق الإنسان في الصحراء. بينما يعتبر المغرب فرنسا مسؤولة عن ملف الصحراء لأنها كانت قوة استعمارية رفقة إسبانيا ولم تقم بتصفية الاستعمار وفق المبادئ الدولية وتركت وراءها مشاكل الحدود، وبالتالي تطالبها بضرورة «الانصاف التاريخي» أي تأييد مطالبها خاصة في نزاع الصحراء.
وكانت مجموعة من الدبلوماسيين وضباط سابقين وخبراء في العلاقات الدولية من فرنسا قد طالبوا مختلف الرؤساء ابتداء من نيكولا ساركوزي إلى إيمانويل ماكرون وكذلك فرانسوا أولاند، في ورقة تسمى «ابن سينا» بضرورة تطبيق توازن في العلاقات مع الجزائر والمغرب، لكن باريس لم تنجح بسبب ثقل التاريخ وبسبب تطورات الأحداث.
وإذا كانت فرنسا في الماضي تقوم بإصلاح العلاقات وتحافظ على نفوذها، فهذه المرة الأمر يختلف. إذ أعلنت الجزائر على لسان رئيسها عبد المجيد تبون تقليص النفوذ الاقتصادي عبر الرهان على إيطاليا كشريك ثم ألمانيا. وفي الوقت ذاته، تقليص التنسيق السياسي في الملفات الإقليمية مثل مالي وليبيا بتفضيل التنسيق والحوار مع تركيا وروسيا.
ورغم أن المغرب لا يتبنى سياسة مواجهة صريحة مع فرنسا كما تفعل الجزائر، فقد بدأ بالرهان على لاعبين جدد في المسرح الدولي مثل بريطانيا وإن كان بشكل محتشم حتى الآن سواء عبر الرهان على اللغة الإنكليزية أو الانفتاح على دول الكومنولث المرتبطة بلندن.
قوس مصالح فرنسا الممتدة من تركيا إلى المغرب مرورا بمنطقة الساحل وشمال أفريقيا يتزعزع ويترنح بسبب سياسة هذه الدول التخلص مما يعتبروه «عجرفة فرنسا» وبسبب لاعبين جدد على رأسهم تركيا وروسيا. وتعترف الطبقة السياسية والعسكرية، حسبما أشارت له في مناسبات افتتاحيات جريدة «لوموند» ومراكز التفكير الاستراتيجي بما تتعرض له فرنسا من تراجع ومشاكل عميقة مع مستعمراتها السابقة، لكنها لا تمتلك حتى الآن الوصفة المناسبة للحفاظ على وضعها ونفوذها في المسرح الدولي.
قوس مصالح فرنسا من تركيا إلى المغرب مرورا عبر الجزائر يترنح
صورة مركبة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وفي الخلفية علمي المغرب والجزائر