منذ قرابة عقد، يعيش المغرب على إيقاع نقاش حول الأولوية في تعزيز توجهه الدولي بين تعميق العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، أو العمق الافريقي، أو رفع العلاقات مع شركاء تجمعه بهم علاقات غير متطورة بما فيها الكفاية مثل، روسيا والصين.
ويأتي هذا النقاش في خضم التطورات التي يعيشها العالم منذ بداية القرن الواحد والعشرين، وتعاظم مع جائحة كورونا، وبدء الصين تقاسم ريادة العالم مع الغرب، خاصة الولايات المتحدة، ثم بحث وضع كل دولة على موقعها في الخريطة الإقليمية والعالمية الآخذة في التبلور، ومن ضمن هذه الدول، المغرب الذي يشهد نقاشا قويا حول نوعية توجهات بوصلته الدبلوماسية والاقتصادية.
وخلال العشر سنوات الأخيرة، رفع المغرب من اهتمامه بافريقيا، ورفع شعار المساهمة في تطوير القارة السمراء، وجرت ترجمة هذا التوجه عبر الزيارات التي قام بها الملك محمد السادس الى دول افريقية، أو استقبال رؤساء أفارقة أكثر من رؤساء الغرب، ثم الرفع من المساعدات والاستثمارات، وأضافت وزارة الخارجية كلمة “الافريقي” إلى اسمها الرسمي لتصبح “وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الافريقي والمغاربة المقيمين في الخارج”.
ويواكب هذا التوجه إنتاج خطاب دبلوماسي وسياسي وأكاديمي حول القارة السمراء، يتراوح بين الطرح الجاد والبروباغندا. وهذا التفكير الجيوسياسي الذي ينهجه المغرب تتحكم فيها عوامل مثل “ما هو أفق طموحات البلاد”، ويفيد التاريخ المغربي بهذا الوعي، أو استحضار نماذج من دول نهجت التوجه نفسه، البعض منها نجح والبعض الآخر فشل. ارتبط المغرب تاريخيا بالقارة الأوروبية والمتوسط، منذ عهد الفينيقيين واندمج في الإمبراطورية الرومانية، ثم الإسلامية ليصبح فاعلا في الأندلس، وكان هذا طبيعيا، لأن المتوسط كان مركزا للعالم رفقة الصين في الجانب الآخر. وفي لحظة تاريخية معينة، أدرك ضرورة تغيير البوصلة من الشمال نحو الجنوب، وحدث هذا مع السلطان السعدي المنصور الذهبي، الذي حكم المغرب من سنة 1578 إلى 1603 وكان من أكبر السلاطين في تاريخ البلاد. بعد انتصار المغرب في معركة وادي المخازن، التي غيرت جزءاً من التاريخ الأوروبي سنة 1578 كان أمام ثلاثة توجهات وهي: الاستعداد لاستعادة الأندلس، أو المساهمة في غزو القارة الأمريكية، لاسيما بعدما اقترحت عليها بريطانيا ذلك، أو بناء إمبراطورية نحو الجنوب، أي نحو القارة الافريقية. وكان قرار التوجه نحو الجنوب، وأسس أكبر إمبراطورية في تاريخ المغرب، شملت كل افريقيا الغربية والساحل الصحراوي. وأدرك أن مستقبل المغرب هو الجنوب في ظل وجود إمبراطورية قوية في الشرق وهي العثمانية، وفي ظل إمبراطورية كانت آخذة في اكتساب القوة شمالا وهي إسبانيا وباقي الدول الأوروبية.
ومن الأمثلة الحالية هي حالة تركيا في الثمانينيات، هل ترغب في أن تكون ذيلا للأوروبيين، أو رائدة الشرق الأوسط، وتعاظم هذا الشعور مع قدوم الرئيس الطيب رجب أردوغان، سواء رئيسا للحكومة، أو لاحقا رئيسا للبلاد الذي فضل الريادة في الشرق الأوسط وآسيا الغربية. وبعد قرابة عقد من سياسة المغرب الافريقية في حلتها الجديدة، هل نجح المغرب في رهانه أم لا؟ وهل تترجم الأرقام الواقعية ذلك أم لا؟ عملية التقييم تحتاج الى الشجاعة السياسية والعلمية، لتفادي ما وقع في تقييم مشروع التنمية البشرية، إذ طغى خطاب سياسي بـ”المعجزة” ليعترف الملك محمد السادس نفسه في آخر المطاف بفشل مشروع التنمية البشرية والبحث عن بلورة مشروع تنموي جديد.
في البدء، حديث بعض “الخبراء” المغاربة عن تعويض الشراكة مع أوروبا بالقارة السمراء، هو من باب “الخيال السياسي” نظرا لوزن القارة العجوز بالنسبة للمغرب، فهي تشكل شريكه التجاري الأول بما يفوق 60% من المبادلات، بقيمة 35 مليار يورو سنويا، ثم المستثمر الأول بما يفوق 70% علاوة على احتضان جالية مغربية تفوق خمسة ملايين. في المقابل، لم تتجاوز المبادلات التجارية مع القارة السمراء 3 مليارات و400 مليون يورو مع نهاية سنة 2000، وأغلب التبادل التجاري مع الدول الكلاسيكية التي تجمعها علاقات اقتصادية قوية بالمغرب مثل، السنغال ومصر والجزائر وتونس. وأمام صعوبة الرفع من التبادل التجاري، حقق المغرب نسبيا نجاحا في الاستثمارات، بعدما وصلت سنة 2019 620 مليون يورو. سياسيا وعلاقة بنزاع الصحراء الذي تعد النقطة الرئيسية في أجندة الدبلوماسية المغربية، ورغم التوتر المغربي مع دول بسبب الملف ومنها إسبانيا وألمانيا حاليا والسويد منذ سنوات، نجد الاتحاد الأوروبي يتخذ موقفا وسطا في نزاع الصحراء، أي دعم مساعي الأمم المتحدة، من دون إصباغ أي وصف على النزاع من اعتباره “احتلالا”، ولا يركز على الاستفتاء. في المقابل، نجح المغرب في إقناع دول افريقية بمغربية الصحراء، بل فتحت قنصلياتها في مدن مثل العيون والداخلة، ولكنه يجد في الاتحاد الافريقي العائق الكبير، بحكم اعتبار هذا الاتحاد الوجود المغربي “احتلالا” ويدافع عن استفتاء تقرير المصير.
يشكل الرهان على القارة السمراء رهانا استراتيجيا لكنه سيبقى، من دون العلاقة مع أوروبا سياسيا وتجاريا وبشريا، وطيلة العقود المقبلة سيكون تكميليا للعلاقات المغربية الخارجية، من دون احتلال الريادة.