خلال العشر السنوات المقبلة، سيكون نصف دول العالم يمتلك أسلحة مكتوباً عليها «صنع في تركيا»، وهو تطور مدهش للصناعة العسكرية التركية. وهذا يجر لتساؤل عريض: لماذا نجحت الصناعة العسكرية في هذا البلد، وفشلت في دول الجوار ومنها في العالم العربي، رغم تخصيصها ميزانيات ضخمة للمؤسسة العسكرية؟
وعليه، لا حديث في الأوساط العسكرية الدولية المهتمة بالجديد في السلاح، سوى التقدم المدهش الذي حققته تركيا من خلال الطائرة بدون طيار «درون» بيرقدار تي بي 2 في الحرب التي جرت بين أرمينيا وأذربيجان، وانتصرت الأخيرة بفضل الدرون التركية. وهو ما دفع دولاً عديدة إلى اقتناء طائرة الدرون مثل المغرب وتونس وقطر وليبيا وأوكرانيا وأذربيجان، ثم بولونيا، التي تعد عضوا في الحلف الأطلسي، وهناك دول تدرس شراء هذه الطائرة مثل السعودية، ولكن المفاجأة هي احتمال اقتناء بريطانيا أو ألمانيا للدرون التركية.
وتبرز «وول ستريت جورنال» في مقال فيها بداية يوم 3 يونيو/حزيران الجاري بعنوان «الدرون التركية الرخيصة، تغير من الخرائط العسكرية والجيوسياسية»، كيف شكلت بيرقدار تي بي 2 ثورة حقيقية، فقد بدأت الشركة المصنعة لها «بايكار» بإنتاج قطع غيار السيارات سنة 1984، وانتقلت إلى صنع طائرة درون، التي طرحت تحديا خطيرا، وهو أنها درون فتاكة، وتساوي أقل من قيمة الصاروخ المضاد للطيران. وبالفعل، هل يمكن مواجهة هذه الطائرة بمنظومة دفاع مثل إس 300 وإس 400 أو باتريوت المكلفة جدا، أي الصاروخ يساوي أكثر من سعر الطائرة. في الوقت ذاته، السعر غير المرتفع لهذه الطائرة، يسمح بالمغامرة في الهجوم العسكري، واستعمال عدد كبير منها دفعة واحدة لتدمير القدرات الهجومية والدفاعية للعدو. وتحولت الخسائر التي ألحقتها الدرون التركية بقوات أرمينيا بتدمير أكثر من مئة دبابة، آخر مثال يتم تدريسه في الكليات الحربية، ولعل الوصف الذي يمكن إطلاقه على هذه الدرون هو أنها بمثابة كلاشينكوف وسط البنادق الحربية، أي في متناول الجميع، من دون استثناء وفتاكة في الحروب.
وهذه القفزة في الصناعة الحربية تقلق بعض الدول ومنها الأوروبية، وعلى رأسها فرنسا، فتحقيق الاكتفاء الذاتي في الدفاع، والانتقال إلى التصدير يترجم إلى استقلالية أكبر في السياسة الخارجية، وفي اكتساب نفوذ ودول صديقة، إن لم نقل تابعة. وتقف عوامل متعددة وراء التقدم الملحوظ لتركيا في صناعة الأسلحة، فقد بدأت التخطيط منذ ستينيات القرن الماضي، لكن الأسس الحقيقية كانت إبان التسعينيات، وخلال العقد الماضي وحتى يومنا هذا، كانت النتائج فائقة التصور والتخطيط. ودفع الشعور القومي الصلب لدى المؤسسة العسكرية التركية إلى وضع أسس الصناعة العسكرية، ثم أدركت أنقرة أنه في منطقة توترات بامتياز مثل الشرق الأوسط، يجب الاعتماد على التسليح الذاتي بدل البقاء رهينة قرارات الدول الغربية ببيعها صفقات بشروط أبرزها، الحفاظ على التفوق الإسرائيلي في الشرق الأوسط. وتضاعف هذا الشعور مع وصول سياسي من مثل طيب رجب أردوغان يمزج بين الشعور القومي المتطرف، الراغب في إعادة مجد الإمبراطورية العثمانية، والشعور الإسلامي الراغب في الظهور بمظهر زعيم المسلمين، وقام أردوغان بمضاعفة ميزانية البحث العلمي، وتخصيص استثمارات ضخمة في المجال الصناعي، وأساسا العسكري، من خلال استقطاب باحثين أتراك مقيمين في الغرب، وتمكين القطاع الخاص المدني من الانخراط في التصنيع العسكري، وكانت النتيجة توفر تركيا على مركب صناعي عسكري على شاكلة الدول الكبرى يضم عشرات الشركات. وتعد الأرقام دالة لمعرفة الصناعة العسكرية التركية، إذ كانت تلبي فقط 24% من الحاجيات العسكرية للبلاد سنة 2002، الآن تقترب من 80%، وترغب في تحقيق 100% مع 2023، الذكرى المئوية لإنشاء الجمهورية. وكانت تركيا سنة 1999 ثاني مستورد للسلاح في العالم، والآن ما بعد العشرين، ثم انتقلت إلى المركز 13 في لائحة الدول المصدرة للسلاح، علما أن السلاح التركي رخيص الثمن، وبالشكل المعقول، بينما الترتيب يعتمد على القيمة المالية للصادرات. وفي ظرف ثلاثة عقود أصبحت تركيا تنتج دبابات رفيعة مثل ألتاي، وسفنا حربية متينة مثل ميلجم، والسيارات القتالية مثل كوبرا، ونظاما صاروخيا مثل كاسيرجا، وطائرات بدون طيار مثل بيرقدار تي بي 2، ولم تعد تركيا تستورد الذخيرة الحربية الخاصة بعتادها العسكري، بما في ذلك الطائرات المقاتلة. ومن مفاجآت الصناعة التركية الدقيقة هو اعتمادها في بعض الأحيان على نظام تصويب، لضرب الأهداف لا يستند إلى جي بي إس، أو لايزر بل تقنية خاصة بها ويكون هامش الخطأ هو مترين على بعد 110 كيلومترات. وهذا النجاح العسكري لا يقتصر فقط على تركيا، بل يمتد الى دول إسلامية أخرى مثل إيران وباكستان.. وتحولت الأخيرة إلى قوة نووية هي أول قوة نووية إسلامية، وتصنع عدداً من أنواع الأسلحة، خاصة الصواريخ بمختلف مدياتها، وانتقلت حاليا إلى صناعة المقاتلات. وبدورها، برعت إيران في صناعة الصواريخ، وكذلك السفن الحربية علاوة على الزوارق النفاثة المسلحة. وأصبح الإنتاج العسكري الإيراني رادعا ضد أي حرب قد تشنها الولايات المتحدة وإسرائيل ضد هذا البلد.
وبينما نجحت تركيا في صناعتها العسكرية، فشلت دول عربية رفعت شعار التصنيع مثل، مصر أو دول أخرى لديها مخططات مثل السعودية والجزائر والمغرب. وتتوفر هذه الدول على كل العوامل لتحقيق قفزة نوعية في الصناعة العسكرية مثل التحدي الأمني الإقليمي، وتعرضها لشروط مجحفة في صفقات الأسلحة وتوفرها على الإمكانيات المالية مثل، حالة السعودية التي لديها ثالث أكبر ميزانية عسكرية في العالم، بعد الولايات المتحدة والصين، وكان بإمكانها خلق صناعة عسكرية واحتضان أخرى في دول مثل مصر والمغرب.