بعد توليه الرئاسة بقليل بداية السنة الجارية، وصف الرئيس الأمريكي جو بايدن نظيره الروسي فلادمير بوتين «بالقاتل». كانت من التعابير الأكثر قساوة تصدر من البيت الأبيض في حق ساكن الكرملين في موسكو، وهي مشابهة لتلك التي كانت تصدر عن الرئيس الجمهوري الأسبق رونالد ريغان الذي كان يصف الاتحاد السوفييتي «إمبراطورية الشر». وعليه، لماذا يستمر تخوف واشنطن من روسيا رغم أن مصدر الخطر الرئيسي هو الصين مستقبلا؟ وشكل اللقاء بين بوتين وبايدن في جنيف السويسرية هذا الأسبوع فرصة للحديث عن وزن روسيا، وهل يتجلى فقط في اتفاقيات الحد من الأسلحة النووية أو في شيء أشمل.
وانتهى اللقاء باتفاقيات بروتوكولية ومجاملات أكثر منها اتفاقيات واقعية وهي الحد المفترض من الأسلحة الاستراتيجية بما فيها النووية والعمل على الحد من الحرب السيبرانية المتعلقة بالإنترنت. وهذا يعني استمرار الاختلافات العميقة بين الطرفين واستمرار مساعي كل طرف لإضعاف الطرف الآخر.
كيف يرى الغرب روسيا؟
واعتاد جزء هام من العالم رؤية الصين وروسيا من خلال منظار الغرب وأساسا الولايات المتحدة، وهكذا، أصبح العالم يتحدث عن «الخطر الصيني في أفريقيا» في حين يبقى الاستثمار والتواجد الصيني في القارة السمراء حديثا للغاية مقارنة مع التواجد التاريخي الاستعماري وفي أكثر الأحيان الإجرامي للغرب في هذه القارة. في الوقت ذاته، يجري التركيز على الخطر الروسي، بينما لم تستعمر روسيا أي دولة ولم تسبب في أي حرب مثل العراق أو ليبيا. وعموما، توجد رؤيتان للغرب تجاه روسيا وهما:
الرؤية الأولى، وهي الكلاسيكية ترى في روسيا وريثة الاتحاد السوفييتي والنظام الذي يهدد النفوذ الغربي. وتعتمد هذه الرؤية على القوة العسكرية الروسية ومواقف الكرملين التي تتعارض مع الغرب في قضايا مثل إيران وكوريا الشمالية والصين وسوريا وملفات أمريكا اللاتينية. وتستشهد ضمن آخر الأحداث قرار روسيا ضم شبه جزيرة القرم بالقوة واقتطعتها من أوكرانيا. وتحذّر هذه الرؤية من العقيدة العسكرية المتطرفة للكرملين الذي يؤكد دفاعه عن حلفائه مهما كان الثمن.
الرؤية الثانية، وتعود إلى بداية القرن الجاري وتتخلص من إرث الحرب الباردة، وتبلورت أكثر مع الرئيس السابق دونالد ترامب، وتتجلى في ضرورة اعتبار روسيا حليفا نسبيا للغرب مستقبلا لمواجهة الصين. وتعتبر هذه الرؤية روسيا ضمن الغرب نسبيا وقابلة للتحول الديمقراطي بدل الضغط عليها حتى لا تتحول إلى الجناح المسلح للصين. ومن الدول الأوروبية التي تؤيد هذه الأطروحة هناك ألمانيا بينما تعارضها بريطانيا.
رؤية روسية قلقة
وإذا كانت رؤية الغرب معروفة بما فيه الكفاية وهي المتداولة حتى أصبحت بطريقة أو أخرى مستوعبة وتمارس تأثيرها على جزء من العالم ومنه العالم العربي، فما هي رؤية روسيا للصراع مع الغرب وباقي العالم؟ وهذه الرؤية متشعبة وتتضمن أطرافا ومنها، كيف ترى للصين، كيف ترى للصراع الصيني-الغربي ثم كيف ترى تواجدها في باقي العالم. ومن خلال خطب الرئيس فلادمير بوتين ومواقف دبلوماسية الكرملين ثم التقارير التحليلية لبعض معاهد التفكير الاستراتيجي في روسيا مثل «روسيا في القضايا الدولية» يتم رصد قلق وانشغالات وطموحات هذه الدولة في:
يعتقد الكثير من الروس سواء النخبة أو الدولة العميقة بل حتى جزء هام من الرأي العام الروسي بتعرض البلاد إلى مؤامرة خارجية من طرف الغرب يهدف إلى تفتيت البلاد وإضعافها. ويتم استحضار تفكيك الاتحاد السوفييتي، وطبع بوتين، الذي كان موظفا في الاستخبارات، هذه الرؤية، حيث اختار لكل المناصب الكبرى في الجيش والاستخبارات والدبلوماسية مسؤولين لهم حنين لعظمة الاتحاد السوفييتي ويعملون إلى استعادتها. ويرون بقلق كبير توسع منظمة شمال الحلف الأطلسي ثم سياسة الاتحاد الأوروبي، ويعتبرانهما رأس الحرب ضد وحدة البلاد.
لقد جرى الاتفاق بين موسكو وواشنطن غداة نهاية الحرب الباردة سنة 1991 على عدم اقتراب الحلف الأطلسي من حدود روسيا أو ضم دول أوروبا الشرقية، لكن الحلف أخل بوعده بإدماج بولونيا وهنغاريا سنة 1999 وقال وقتها أن البلدين لا تجمعهما حدود برية مع روسيا مباشرة. وبعد مرور خمس سنوات، سنة 2004 قام الحلف مجددا بإدماج دول البلطيق وهي التي تجمعها حدود بروسيا. وأقام سنة 2014 نظام الدرع الصاروخي الذي يشمل رومانيا وبولونيا.
هذه الإجراءات التي جعلت روسيا تتبنى سياسة متطرفة عسكريا تجاه الغرب ومنعه من ضم أوكرانيا، وبدأت مناورات عسكرية ضخمة سنويا تتضمن سيناريوهات غزو أوروبا الشرقية وعلى رأسها دول البلطيق. وآخر هذه المناورات تلك التي جرت خلال اذار/مارس ونيسان/أبريل الماضيين عند حدود أوكرانيا، وتخوف الغرب من فرضية غزو روسي لهذا البلد.
تعتقد روسيا أن العالم يرى أنها فقدت الوزن الجيوسياسي بعدما أصبحت دولة شبه ثانوية في ظل الصراع الغربي-الصيني. ويتساءل الروس: هل بالفعل حلت الصين محل روسيا في المشهد العالمي وتحولت إلى حليف مساعد لبكين في هذه الحرب الباردة الجديدة؟ وفي هذا الصدد، يتساءل الخبراء الروس: ما هو موقع روسيا مستقبلا إذا اشتدت الحرب الباردة بين بكين وواشنطن؟
أجندة روسيا للحفاظ على موقعها الجيوسياسي
أعدت موسكو أجندتها الخاصة برؤية العالم، وتشمل الشق العسكري والاقتصادي والسياسي. وترمي من خلال هذه الأجندة الحفاظ على نفوذها وعدم التراجع إلى مركز ثانوي في الخريطة الجيوسياسية العالمية.
وعلاقة بالشق العسكري، لقد أعلن بوتين يوم فاتح آذار/مارس 2018 عن العقيدة العسكرية الروسية التي تتمثل في الدفاع عن البلاد في وجه أي اعتداء «وبدون رحمة ولا شفقة» ثم الدفاع عن الدول الحليفة لروسيا من خلال الرد النووي إذا تعرضت لهجوم نووي، ثم تسليحها لتصبح قوة رادعة ضد أي عدوان خارجي يستهدفها. وعمليا، قامت روسيا بتسليح الدول الحليفة لها ومنها الجزائر وفنزويلا. فقد مكنت الأولى من أسلحة متطورة مثل نظام الدفاع الجوي إس 400 ومقاتلات من سوخوي وصواريخ إكسندر وغواصات. وزودت فنزويلا بأنظمة هجومية ودفاعية تجعل كل غزو أمريكي صعبا للغاية. وأصبحت الكثير من دول العالم ترغب في عقد صفقات أسلحة مع روسيا، والعسكري يجر إلى حلف سياسي أو تفاهم سياسي في المنتديات الدولية. لقد جعل بوتين من عقيدته العسكرية بمثابة حلف عسكري قائم يشبه الحلف الأطلسي. وكانت جريدة «لوموند» في افتتاحيتها سنة 2014 في التعليق على الاستراتيجية التي بدأتها روسيا وقتها قالت إن «فن حرب بوتين ضد الغرب وأساسا الولايات المتحدة» وهي القائمة على فرض واقع جديد يقترب من استنزاف الدبلوماسية مع حضور الحل العسكري من دون اللجوء إلى الحرب مباشرة. وتعد سوريا محورية في العقيدة الروسية، فقد تدخلت خلال ايلول/سبتمبر 2015 لإنقاذ نظام بشار الأسد والحفاظ على قاعدتها العسكرية الوحيدة المطلة على البحر الأبيض المتوسط المتواجدة في سوريا.
وعلاقة بالشق الاقتصادي، تساهم روسيا رفقة بكين في محاولة صياغة عالم جديد غير مرتبط بالاقتصاد الغربي وعملته الدولار كما يحدث الآن. وتنهج آليتين، آلية بريكس، وهي علاوة على روسيا، الصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، وتتعثر هذه الآلية بسبب وصول اليمين إلى البرازيل وتأخيره الاتفاقيات الاقتصادية الكبرى، ولهذا هناك رهان أكبر بين الصين وروسيا على اتفاقيات ثنائية. والآلية الثانية هي توقيع اتفاقيات للتبادل التجاري بالعملات الوطنية والتخلي عن الدولار مثل الاتفاقية مع الصين ومع تركيا وإيران، وهي قوى اقتصادية كبرى في القارة الآسيوية. وأنشأت روسيا الاتحاد الاقتصادي الأور-أسيوي سنة 2015 الذي يضم كل من روسيا وكازاخستان وروسيا البيضاء من أجل إنشاء حلف اقتصادي كبير. لكن رهانها الكبير هو على الصين، حيث لم يعد الاتحاد الأوروبي هو الشريك التجاري الأول لموسكو بل بكين ابتداء من السنوات الماضية من خلال الرفع من المبادلات التجارية والاستثمارات.
وفي الشق السياسي، تنهج روسيا سياسة مزدوجة تجاه الغرب من خلال محاولة الفصل بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ثم التسبب في اختلاف وسط الأوروبيين بشأن التعاطي مع روسيا. وعمليا، مقابل العداء البريطاني والبولوني المطلق في مواجهة سياسة موسكو، تحاول ألمانيا وبعدها فرنسا مد جسور الحوار مع روسيا لوعيها بالوزن العسكري القوي للدب الروسي وعدم تردده في الدفاع عن مصالحه ولو بالسلاح. وتعد فرنسا وألمانيا في صدارة الدول المستثمرة في هذا البلد، وبالتالي تراهنان على الحوار. ويتبين من خلال الورقة التي أعدها المسؤول عن العلاقات الخارجية والدفاع في الاتحاد الأوروبي جوسيب بوريل وقدمها الثلاثاء من الأسبوع الجاري، كيف يرى روسيا شريكا وليس بالضرورة عدوا كما تريد واشنطن. واستفادت روسيا كثيرا من حقبة الرئيس السابق دونالد ترامب في تعميق الخلاف الأوروبي بشأنها، فقد استغلت جيدا رؤية ترامب المذكورة لموسكو، كما استغلت الخلاف الأوروبي-الأمريكي في مختلف القضايا. ويحاول الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن رأب هذا الصدع وإعادة بناء الغرب لمواجهة روسيا والصين.
رأي عام روسي مضاد لواشنطن
وعلى الرغم من غياب الديمقراطية في روسيا، تشترك قيادة البلاد مع رأي غالبية الشعب في محاولة الغرب تفكيك أو السيطرة على صناعة القرار الروسي. ويحدث عدم مصادقة الروس على سياسة بوتين داخليا، وعندما يتعلق الأمر بمواجهة الخارج يتوحد الجميع تقريبا.
وكشف استطلاع للرأي أنجزه معهد الدراسات الاستراتيجية «رياك» الروسي ونشر نتائجه هذا الأسبوع أن 33 في المئة من الروس يعتقدون أن الولايات المتحدة ترغب في شراكة مع روسيا ولكن وفق شروط واشنطن. ويذهب 30 في المئة من المستجوبين إلى رغبة الولايات المتحدة والغرب عموما الحد من النشاط العسكري الروسي. ويعتقد 21 في المئة في محاولة الولايات المتحدة إنشاء شراكة مع روسيا وبشروطها لمحاصرة الصين. في حين يؤكد 24 في المئة من المستجوبين استمرار الولايات المتحدة في مخططاتها لتفكيك روسيا كما الاتحاد السوفييتي سابقا.
لقد نجح بوتين في إعادة روسيا إلى الخريطة الجيوسياسية العالمية كلاعب رئيسي، ولكن حتى متى يمكن لموسكو الحفاظ على هذا الوضع في ظل اشتداد الحرب الباردة بين الصين والولايات المتحدة؟ لقد كانت قمة الدول السبع مخصصة لمواجهة الصين وليس لمواجهة روسيا.